الانتفاضة التي لا تتطور لكي تصبح ثورة حقيقيّة غالبا ما تعود بالوبال على صنّاعها، فبدل أن تتحوّل إلى نصر يستولي من خلاله جمهور المنتفضين على مفاصل السّلطة ويمارسون من خلالها حكم الطّبقات الثّائرة، فإنه يتمّ وأدها مبكّرا ويظهر على المسرح السياسي حكام جدد هم نسخة مكررة عن الحكام القدامى فيلبسون رداء الثورة وسرعان ما يتحولون إلى وحش كاسر يفترس المنتفضين.
ويزخر تاريخ الشعوب بمثل هذه الانتفاضات التي عوقب أبناؤها بقسوة بدل انتصارهم على أعدائهم ، ولا يختلف الشّأن في تونس خلال تاريخها الحديث والمعاصر عن هذا السياق، بل إنّ جلّ الانتفاضات التي شهدتها طيلة هذه المرحلة بدءا من انتفاضة الفلاحين الفقراء بقيادة علي بن غذاهم وصولا إلى انتفاضة 17 ديسمبر كانت نهايتها محزنة.
انتهت انتفاضة الفلاحين باعتقال علي بن غذاهم في فيفري 1866 ليموت في أكتوبر 1867 في سجن الباي فدفع بذلك غاليا ثمن تردده في اقتحام العاصمة و اغتراره بوعود السلطة و تخليه عن القتال، أمّا "الفلاّقة" الذين رفعوا السلاح ضدّ الاستعمار الفرنسي فقد افترستهم مدافع جنود الاحتلال وقنابل طائراتهم فيما وجد من نجا من مشانقه مشانقَ بورقيبة بورقيبة في انتظاره لتقصف رؤوسهم "مكافآة" لهم على ماضيهم النضالي والقتالي خاصّة، وذهب الآلاف ممّن خرجوا في انتفاضات 1978 و1980 و1984 و2008 ضحايا بين قتيل وجريح وسجين ومفصول عن العمل ومشرّد. وها هي انتفاضة 17 ديسمبر 2010 تتّبع نفس الوجهة بالرّغم من أنّ من يحكمون تونس اليوم يجلسون على العرش بإسم الثّورة وتبجّحون بأنّهم ينفّذون أهداف من ثاروا ويحقّقون مطالبهم، فكيف كافــأ حكّام "الثّــورة" جمهور الثّائرين من أجل الحصول على الشّغل و تحقيق الحريّة والكرامة الوطنيّة؟
خلال الفترة الممتدّة بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 سقط 338 شهيدا و2147 جريحا وهي حصيلة غير نهائية حسب ما ورد في تقرير لجنة تقصّي الحقائق. أمّا بعد هذه الفترة فإنّ حصيلة الضّحايا كانت أرفع بكثير، فعشرات الآلاف من الحالمين بتغيير أوضاعهم الماديّة أُجبروا على الهجرة "حرقا" بالإلقاء بأنفسهم وسط الأمواج فيما وجد العشرات في عمليّة الانتحار حرقا حلاّ لوضع حدّ لمعاناتهم الاجتماعيّة ومن بينهم عدد من جرحى الانتفاضة (انظر عدد شهر جانفي 2013 من طريق الثورة) بعد أن يئسوا من وعود الحكومات المتتالية التي عمقت جراحهم بدل أن تشفيها. وقد اتّخذت ظاهرة الانتحار حرقا أبعادا مفزعة وخطيرة، ليس فقط من خلال ارتفاع عدد المنتحرين ولكن أيضا عبر تطوّر هذه العمليّة إلى الانتحار الجماعي وهو الشكل الذي أقدم عليه يوم 1 أفريل 2013 سبعة من عملة الحضائر في منطقة جبنيانة غير أنّه تمّ إيقاف التنفيذ بعد تدخّل السّكان، وقبلها بنصف شهر فقط شهدت تونس في يومين متتاليين خمس حالات انتحار "ناجحة" أشهرها تلك التي وقعت في شارع بورقيبة في قلب العاصمة من قبل بائع سجائر متجوّل.
ولا يزال القمع البوليسي والقضائي إحدى أهمّ الطّرق التي تستعملها السّلطات القائمة في مجابهة مطالب المنتفضين الذين أشبعوا وعودا وكلاما معسولا ، فمن أحداث 7 و9 أفريل 2011 بالعاصمة إلى أحداث أوت 2012 بسيدي بوزيد إلى أحداث الرشّ بسليانة إلى غيرها من المسيرات التي جوبهت بالقمع البوليسي.
وللأجهزة القضائيّة أيضا نصيبها في "مكافأة" أبطال الانتفاضة، والدّليل على ذلك عدم صدور أحكام إلى حدّ الآن وبعد مضيّ أكثر من سنتين في عديد القضايا المتعلّقة بشهداء الانتفاضة وجرحاها ، فيما انتهت بعض هذه القضايا إلى إصدار أحكام أقلّ ما يقال فيها أنّها مهزلة على غرار الأحكام الصّادرة في قضيّة شهداء وجرحى الرّقاب. أمّا من لم يُقتل أو يُجرح ومن لم يحرق أو يحترق وكان من الفاعلين في مسار الانتفاضة فقد ترصّدته المحاكم بعد طول انتظار، إذ تطالعنا الأخبار في كلّ مرّة بنبإ تقديم بعض من شاركوا في مهاجمة مقرّات الأمن أو مقرّات حزب التجمّع إلى المحاكمة، وكانت آخرها محاكمة أكثر من 20 شابّا كانوا قد شاركوا يوم 7 فيفري 2011 في مسيرة بمنزل شاكر شهّروا فيها بمحاسبة التجمعيين والمخبرين الذين كانوا وراء تعرضهم للقمع مطالبين بمحاسبتهم، وقد أصدرت في شأن عشرة منهم المحكمة الابتدائية صفاقس 2 أحكاما بـ 4 أشهر سجنا وخطية قدرها 500 دينار.
لا يبدو الأمر غريبا خلال مرحلة الاستعمار المباشر بما أنّ الصّراع بين الإمبرياليّة والشّعب كان يفرض على القوّة الاستعماريّة تصفية أعدائها بقوّة الحديد والنّار من جهة وبقوّة قوانينها الظّالمة من جهة أخرى. و لا يبدو الأمر غريبا أيضا في ظلّ حكم الرّجعيّة الليبراليّة بقيادة الحزب الدّستوري الذي ورث السلطة عن الاستعمار المباشر ليكون وكيله الأوّل والمؤتمن على حفظ مصالحه. أمّا أن تتواصل نفس السّياسة ونفس الممارسات والقوانين في ظلّ سلطة تقول أنّها تمتلك شرعيّة شعبيّة وتسوّق لنفسها على أنّها المؤتمن على ثورة الشّعب، في حين أنها تواجه المسيرات بالرش والغازات والرصاص المطاطي، فإنّ ذلك يدلّ على تواصل العداء بين السلطة القائمة وبين الشعب .
ويتأكّد هذا التناقض أكثر بلجوء هذه السلطة إلى معاقبة من ثاروا على حكم بن علي ومن دعوا إلى محاسبة مخبريه فتودعهم السجن فيما يتحصّن أعداء المنتفضين وقتلة الشهداء بالحماية التي توفّرها لهم ويتمتّعون في ظلّها بالحريّة. إنّ سلطة تحمي أعداء الشّعب هي بالتأكيد سلطة معادية للشّعب، وإنّ نظاما يعاقب جماهير الشّعب لأنّها ثارت وانتفضت ضدّ حكم سابق هي بالتأكيد استمرار لنفس النظام الذي ثاروا ضدّه، لذلك تواصل الجماهير الشّعبيّة رفع نفس الشّعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، فهي تعي، رغم كلّ محاولات التضليل الذي تمارسه عديد الأطراف الرجعية والانتهازية، أنّ النظام لم يسقط وأنّ الثّورة لم تقع، وقد تفاجئُ هذه الجماهير أعداءها إذا ما نجحت في تنظيم صفوفها في أحزاب وجبهات ثورية بما لا يتصورونه خاصة أن المقاومة لا تزال مستمرة بأشكال مختلفة .
---------------------------------------------
طريق الثورة، العدد الـــثّامن، أفريــل 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق