الأحد، 31 أكتوبر 2021

الشعبوية في تونس

                                  بقلم فريــد العليبي

أستعملت الشعبوية في السياسة التونسية حتى الآن كشتيمة ، فهى وصمة عار تلحق هذا السياسي أو ذاك ، الذي يجري التعامل معه باعتباره خطرا ماحقا، فهو كاذب ومنافق وحانث باليمين، يقول ما لا يفعله، يُطلق الوعود جزافا، إنه مُخادع يفتك بضحيته بمعسول كلامه. وتؤدي النعوت الأخلاقية هنا وظيفتها كأداة لتحطيم الخصم السياسي، فالمخاتلون يستعملون "الشعبوية" كصفة سلبية في خطاباتهم بغرض التأثير على المتلقي، وهم لا يكلفون أنفسهم حتى مهمة تدقيق معنى ذلك اللفظ فالمهم استعماله، فيتحول على أيديهم الى مجرد سلاح في معارك السياسة.

   وهذا الصنيع ليس خاصية تونسية صرفة، فهو مُنتشر في أغلب البلدان، حيث يتراشق السياسيون بتهمة الشعبوية الآن، فأي حزب لم يتهمه خصومه بالشعبوية من اليمين حتى اليسار؟ وكثيرا ما تنبري وسائل الاعلام الى الترويج للوحة سياسية فيها قدر كبير من التبسيط، حيث هناك الشعبويين من جهة، وغير الشعبويين من جهة ثانية، لترسيخ تناقض وهمي في الأذهان، وبطبيعة الحال يجتمع كل خصوم الشعبوي تحت يافطة واحدة ،عنوانها محاربة الشعبوية وكف شرها فذلك هو الشعار الذي يوحّدهم. وسواء تعلق الأمر باليمين بأصنافه الليبرالية أو الدينية، وصولا الى اليسار التقليدي، فان كل تلك القوى تنخرط في رحلة صيد الشعبوية. ومن ثمة يجري إخفاء التناقض الحقيقي الذي هو بين الشعب من جهة واللصوص والمضاربين والمحتكرين والمستغلين والقوى الخارجية المتحالفة معهم من جهة ثانية.

وفي تونس يروج القول في السياسة الدارجة ان قيس سعيد هو من يمثل الشعبوية، فهو من غالط الناس بخطابات فارغة وشعارات خاوية، من قبيل الشعب يريد وسيحقق ما يريد وبمعاداته للأحزاب والمنظمات الوطنية والنخبة السياسية والفكرية، وتخوين الجميع والترفع عليهم وتجاهلهم وعدم محاورتهم الخ.. والمفارقة أنه هو من يتحدث عن ذلك التناقض الحقيقي ويسعى الى حله، بينما يترك لأعدائه مهمة التلهي بوصفه بالشعبوي والغرق في أوحال ذلك التناقض الزائف الذي لا يزيد الا في عزلتهم.

   و ما يجعل هؤلاء يجتمعون ويتآلفون ضده، هو أنه ناقد للديمقراطية التمثيلية الليبرالية، بينما هم جميعا يستظلون بها، ووجدوا فيها خلال السنوات العشر الماضية حضنا دافئا ناموا فيه وشربوا من حليب تونس دون حسيب، وعندما شارف ضرعها على الجفاف استعدوا لنحرها والأكل من لحمها، وهنا نهض الشعب لإنقاذها، فكانت هبّة 25 جويلية، وفي تلك اللحظة بالذات تبددت غمامة الشعبوية التي روجوا لها ليرى الشعب وعود قيس سعيد وقد تحولت إلى وقائع.

والمُرجّح أنّ الشعبوية في تونس لم تصل بعد الى حد أن تكون ظاهرة، وانما هناك نزعات شعبوية، واذا كان من ملامحها تجسدها في السياسي، مُبشر الشعب بالخلاص الفردوسي وتقربه اليه بادعاء تماهيه مع الشعب الحقيقي، وتصنعه كاريزما تختصر الشعب في شخصه، وتمايزه مع المنظومة التقليدية التي حكمته على مدى سنين، وتجاوزه للانقسام بين يسار ويمين، جاز القول أنها موزعة بالعدل بين الخصوم السياسيين على اختلاف مشاربهم، فقلما نجا منها أحدهم، فأيّ سياسي في تونس لم يعد الشعب باللبن والعسل، متصنعا الزعامة والثورة على القديم، محركا ما في أعماق الجموع من عواطف جياشة، مستثمرا الدين والجهوية والفقر والمرض، متلاعبا بمشاعر المقهورين ؟ فتحولت السياسة من برامج إلى اغراءات، لا أول لها ولا آخر.

 جريدة الأنوار، 29 أكتوبر 2021.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق