لافتة للنظر هي تلك الكلمات التي استقبل بها رئيس الجمهورية يوم 6 أكتوبر2021 رئيسة الحكومة في قصر قرطاج وقال فيها : كنت أنظر الى النافذة منذ قليل وتذكرت المسعدي وكتابه مولد النسيان الذي يرد فيه: "ليلة عاتية وريح شمال هجهاجة ولعاب البحر ورماد السماء". ترى ما الذي كان سببا في اثارة تلك الذكرى في نفسه ؟ يبدو أنه كان في لحظة تأمل للوضع السياسي فرأي تلك الريح الهجهاجة، أي الشديدة الهدير وهي
تهب على تونس، في إحالة الى ما يًضمره له أعداؤه وللشعب الذي يرى أنه وإياه سواء من حيث الاستهداف، منذ ربط مصيره بمصيره، أما لعاب البحر فقد أحاله الى ألاعيب السياسيين الطامعين الذين يسبقهم سيلان لعابهم كلما تحدثوا في السياسة ، فهي بالنسبة اليهم تجارة. وربما رأى في رماد السماء سحابا كاذبا ، بما يشير الى موت مرحلة وبداية أخرى، لذلك سرعان ما تخلص من تلك اللوحة الكئيبة مُعوضا إياها بلوحة سعيدة، مُتحدثا عن فجر قادم بخطى حثيثة، فالريح الهجهاجة تواجه مقاومة، فقد وجدت في طريقها رياح الشعب، وهى المنتصرة لا محالة.من خلال تلك الكلمات نفهم أن قيس سعيد مسكون هذه الأيام بمتابعة تلاطم الرياح وتناطحها ، وهو ما يعني إدراكه أن الوضع لم يستقر بعد، فقد كانت هناك مظاهرات ضده ومظاهرات معه. وما جعله واثقا من أمره بحديثه عن الفجر السعيد، هو رجحان الكفة الشعبية لصالحه لذلك تحدث عن التناقض بين الريح والرياح، فالرياح إيجابية بينما الريح سلبية، وهذا معناه أن هناك ازدواجية سلطة الآن في تونس، فهو لا يحكم لوحده، بل ربما هو في موقع ضعف، قياسا الى منظومة قوية بسيطرتها على الاقتصاد والاعلام والثقافة الخ..، وارتكازها على دعم عربي واقليمي ودولي، بينما يستمد هو قوته رئيسيا من الشعب، الذي لا أسلحة كثيرة بين يديه الآن على الأقل.
ومن هنا خطأ من يعتقد أن قيس سعيد يحكم تونس لوحده، فالسلطة لا تزال برؤوس متعددة، والصراع بينها لم يدرك بعد نهايته، ومن يتظاهر ضد قيس سعيد انما يفعل ذلك لصالح جزء من السلطة، ومن يتظاهر ضد من هم ضد قيس سعيد يفعل ذلك لصالح جزء آخر من السلطة أيضا، بمعنى أن المعركة اليوم هي بين رؤوس السلطة، والسؤال هو : ما هي الرؤوس التي هي ضد الشعب وماهي تلك التي معه ؟ والاجابة عنه مرتبطة بالسياسة والفلسفة والتاريخ، بما يسهل قراءة الوضع و فهم التناقضات وترتيبها وربط المراحل ببعضها وحسن تقويمها، ومن ثمة الانخراط في الصراع، وهو ما يعيه الشعب الذي يلتف حول الرئيس، أما القائلون من بين السياسيين والحقوقيين المنعزلين في صوامعهم : نحن لا نهتم بذلك الصراع، إننا خط ثالث، فهم إما مخاتلون يصبون ماءهم في قربة الاسلام السياسي، وإما جهلة بالسياسة والتاريخ والفلسفة، يكررون الشعارات والقوالب الجامدة ولا يفعلون شيئا له قيمة في ذلك الصراع فهم خارجه .
يرى قيس سعيد أنه على حق والتاريخ الى جانبه، فهو يُواصل الثورة التونسية المغدورة محاولا اعادتها الى سكتها لتمضي قدما، لذلك يرفع الشعارات وهو في القصر مثل: العزة للثورة والاكبار للشعب، فتلك الثورة مستمرة برأيه وعلى يده بالذات وهي اليد التي وضعها في يد الشعب ليسير معه خطوة خطوة. فهو مدرك لأهمية اتحاده مع الشعب في رياح مضادة لتلك الريح العاتية الهجهاجة، وهنا الجديد في تاريخ الانتفاضة التونسية، فقد كان الشعب يكافح والمنظومة متحدة ضده وهى في قصور السيادة، بينما الآن هناك قصر للشعب في قرطاج، وقصران مُغلقان في باردو والقصبة، كانت تقيم فيهما المنظومة .
وفي الأثناء كانت مسيرات 3 أكتوبر2021 خطوة أخرى مهمة في صراع رياح الشعب مع ريح المنظومة، ويبدو كما لو أن هناك تناغما وانسجاما بين الشعب والرئيس، فكلما خطا الشعب خطوة خطا الرئيس خطوة، وكلما خطا الرئيس خطوة خطا الشعب خطوة. وأثناء المسير سيكتشف قيس سعيد أن أسلحة كثيرة تنقصه، ومنها التنظيم فهو لئن رأى في الأحزاب وسائل ميتة تخطاها الزمن، فإن التنظيم ليس منه بُد وإن حمل أسماء أخرى، فضلا عن البرنامج السياسي والخطط التي تكون تجسيدا له والاعلام الناطق باسم الشعب والثقافة المناصرة له .
جريدة الانوار 8 أكتوبر 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق