الخميس، 13 يناير 2022

‏14 جــــانفي: تاريخ "ثـــورة" أم تاريخ اِنقــلاب ؟


   ما زال الحديث عن يوم 14 جانفي 2011 يثير جدلا كبيرا في ذاكرة التونسيين، بين من يعتبره "تاريخا للثورة" وهو ما يجد صداه اليوم في من يتشبّثون بهذا التّاريخ كيوم عطلة رسميّة بعد ان أسقطه رئيس الدّولة قيس سعيّد وعوّضه بـ 17 ديسمبر ممّا أثار سخطهم، وبين من يعتبره تاريخا لانقلاب حدث داخل النّظام الحاكم الذي أراد الشّعب إسقاطه وقد تمظهر هذا الانقلاب في هروب أو تهريب الرّئيس بن علي وهو أيضا تاريخ للشّروع في الالتفاف على انتفاضة الشّعب وعلى شعاراتها الاجتماعيّة والسياسيّة وحرفها عن مسارها الثّوري.

   في علاقـة بهذا الجدل، نورد هنا مقتطفا من كتاب "الرّبيع العربي والمخاتلة في الدّين والسياسة" الصّادر سنة 2013، حيث يحاول الرفيق فريد العليبي الإجابة عن هذا السّؤال.

1ــ ماذا حدث يوم 14 جانفي 2011 في تونس ؟

   يجدر التساؤل عما حدث بالضبط يوم 14 جانفي ‏ في تونس و ‏الأيام القليلة التي سبقته ؟ كثيرون يسألون هذا السؤال، وبرأينا فإن هذا اليوم ‏يجب فهم أحداثه على ثلاث مستويات، أولا مستوى الكفاح الشعبي و ثانيا مستوى ‏الصراع داخل النظام وثالثا مستوى التدخل الامبريالي.

   و إذا كان المستوى الأول ‏يمكن الحديث عنه بقدر من التدقيق فان المستوى الثاني يكتنفه الغموض ‏فصراعات القصر والدسائس والمؤامرات تمت وراء الكواليس ولن يفصح عن ‏فحواها بسهولة وهنا بالذات نذكر درس ماكيافال حول الأمير و المؤامرة فـ"على الأمير أن لا يخشى كثيرا من المؤامرات إذا كان الشعب راضيا عنه، أما ‏إذا كان مكروها و يحس بعداء الشعب له فإن عليه أن يخشى من كل إنسان ومن ‏كل شيء"‏ ‏ويبدو أن بن على قد تآمر عليه أقرب أعضاده بما في ذلك حرسه ‏الخاص.‏

   إذا عدنا إلى المستوى الأول أمكننا القول بيسر أن الحديث عن شارع بورقيبة ‏باعتباره قاهر بن علي ورمز الثورة التونسية يرقى إلى مستوى الخرافة، ففي ‏ذلك اليوم تراجعت قوات البوليس على غير العادة وأفسحت المجال أمام بضع ‏مئات من المتظاهرين مما مكن لاحقا من تزايد الأعداد بشكل كبير، وبدا رجال ‏الأمن وديعين ومتسامحين و هو ما لوحظ قبل ذلك بيومين في مدينة صفاقس كما ‏بيناه، وعندما أيقنوا أن الأمر اقترب من الخروج عن السيطرة عند محاولة ‏المتظاهرين اقتحام وزارة الداخلية، أطلقوا بعض قنابل الغاز المسيلة للدموع ‏فتفرقت الحشود، وبالتالي فإن القول أن شارع بورقيبة كانت له الكلمة الفصل ‏في إسقاط بن على مجانب للصواب، فما حصل خلال ذلك اليوم ربما يفسره ‏المستوى الثاني فقد بدا أن هناك من يسعى إلى الضغط بالجماهير وتوظيفها ‏لصالحه في خطوة محسوبة بدقة، وهذا لم يحصل لأول مرة في تونس بل ‏حصل سابقا ايضا عندما مارس وزير الداخلية خلال انتفاضة 3 جانفي 1984 ‏ضغطا على رئيس الحكومة بتوظيف احتجاجات جماهيرية كبيرة فأوعز إلى ‏جهاز البوليس بالتساهل في التعامل مع المتظاهرين غير أن خطته فشلت ربما ‏لأنها لم تجد دعما خارجيا، أما في الحالة موضوع حديثنا فإن العامل الخارجي ‏كان حاضرا، وهنا نصل إلى المستوى الثالث فنحن نرجح أن الامبرياليتين ‏الأمريكية والفرنسية خاصة هما من وضعتا الخطة و راقبتا التنفيذ. ‏

   لقد كانت الجماهير تريد الحرية ومطلب إسقاط النظام على ألسنتها وكانت في ‏حركة كفاحها مصممة على بذل ما يجب في سبيل ذلك، هذا ما لا ينبغي أن ‏يكون موضع شك ولكن أعداءها كانوا يريدون شيئا أخر، وهو التخلص من بن ‏على والحفاظ في نفس الوقت على نظام لم يعد بإمكانه ضمان بقائه، خاصة بعد ‏تواتر الانتفاضات في أكثر من جهة من جهات البلاد.‏‎ ‎

‏ ‏‎ ‎إنّ ما حصل حتى الآن ضمن سيرورة "الربيع العربي" هو تحويل الانتفاضة ‏إلى مسخ وعندما ينظر المنتفضون اليوم إلى ما صنعت أيادي خصومهم بذلك ‏المولود الذي صرخ صرخته الأولى بين أحضانهم في القرى والمدن المهمشة و‏الأحياء المفقرة لا يتعرّفون عليه، لقد غدا مخلوقا مشوها يزعم غرباء أبوتهم ‏له، وخاصة هؤلاء الساسة الذين تمت استنساخهم كقادة في ما وراء البحار، وجرى فرضهم على المشهد السياسي بقوة المال و الإعلام و العسكر.

   وفي تونس اليوم يمكنك معاينة ذلك بيسر ليس فقط على صعيد الأحداث الكبيرة ‏الماكروسياسية وإنما على صعيد المشاهد اليومية الميكروسياسية أيضا، ففي ‏يوم من الأيام كنت واقفا في طابور طويل فيه نساء و رجال تجمعوا لخلاص ‏معلوم العلاج في مستشفى عمومي وكالعادة لم يلتزم أحدهم بالدور فصرخ ‏كثيرون في وجهه مما أحدث حالة هرج ومرج فعلقت مازحا: لا بأس إن هذا ‏من ثمار الثورة، وجاء الرد سريعا من امرأة معدمة قائلة: "أي ثورة ؟ إنها ‏غورة‎ ‎". إن من يحكمون تونس ما بعد بن على لا يختلفون كثيرا عن ذلك ‏الرجل الذي لم يحترم الطابور فقد قاموا بما يشبه الإغارة على الانتفاضة فسلبوا ‏الشعب نصره.

كتاب الربيع العربي والمخاتلة في الدين والسياسة الصادر سنة 2013

2 ــ ماذا حدث في صفاقس يوم 12 جانفي 2011: التاريخ الحقيقي للانقلاب على بن علي ؟

   ما حدث في صفاقس قبل ذلك بيومين (المقصود 14 جانفي) لا يختلف كثيرا، مما يرجح أن الانقلاب حصل قبل يومين على الأقل، فيوم 12 جانفي تجمع الآلاف من الناس ربما خمسون ألفا أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل و كان الجو مشحونا وأصرّ الكاتب العام للاتحاد الجهوي على عدم تحويل الاجتماع إلى مظاهرة، ولكن عددا من الحاضرين صمم على الذهاب إلى الشارع وحصلت مواجهات مع قوات البوليس التي استعملت قنابل الغاز المسيل للدموع بينما كان المتظاهرون يستعملون الحجارة ، لم يكن هناك التحام مباشر بين الطرفين فالبوليس رابط في مواقعه أمام سوق الخضار القديم بشاطئ القراقنة وكان التردد باد عليه على غير العادة و عندما اتجهت الحشود الى مقر الولاية لم تواجه في طريقها الذى يمتد مئات الأمتار أية قوة بوليسية و قد حاول شاب الاعتداء على البيعة اليهودية فتم ثنيه عن ذلك، أمام مبنى الولاية انتصبت شاحنة عسكرية واحدة و بضعة جنود لا يزيد عددهم عن الخمسة، ربما كان عدد آخر في الداخل، توقف الحشد فأخذت الكلمة وسردت مطالب الانتفاضة وذكرت بشهداء القصرين و سيدى بوزيد و ضرورة محاسبة قتلتهم و قلت إن رحيل بن على أصبح مطلبا شعبيا، بعد أن أنهيت كلمتي تقدم منى الضابط الذي كان يقود مفرزة الجيش ورجاني عدم دخول المبنى الذي أحاطت به الأسلاك الشائكة، ثم تكلم أحد أصدقائي ورجا الجميع عدم حرق المدينة، وكان لافتا ان البعض من بين المتظاهرين كان يحاول تركيز الشعارات على مطالبة الجيش بالانقلاب مرددا: انقلاب، انقلاب ويا جيش يا قوي خرجنا بن علي، صمم الحشد على استهداف مقر التجمع وهو بناية ضخمة ذات جدران بلورية تبعد عن مقر الولاية عشرات الأمتار وعندما وصلنا إليه لم تكن أمامه أية حراسة وسرعان ما اشتعلت فيه النيران التي أصبح بإمكان المتساكنين في سائر أرجاء المدينة مشاهدتها، خلال هذا اليوم استشهد شاب ولكن ليس بالرصاص وإنما اختناقا بالغاز المسيل للدموع .

فريد العليبي، كتاب الربيع العربي والمخاتلة في الدين والسياسة الصادر سنة 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق