بقلم فريــد العليبي
الاستشارة الالكترونية وسيلة جديدة لجعل المواطن ينخرط في السياسة، وهى مجال للتداول الحر بين المشاركين فيها، بما يعنيه ذلك من بروز فضاء عمومي جديد، حيث يتمكن المواطنون من التعبير عن آرائهم وفي نفس الوقت ضمان الاصغاء اليهم من طرف الحكام .
ومنذ التسعينات من القرن الماضي كان هناك في عدد من البلدان بحث عن وسائط جديدة للمشاركة السياسية، وقد مكنت الانترنات من الظفر بمثل تلك الوسائل. وشيئا فشيئا أصبحت المؤتمرات وتوقيع العرائض و سبر الآراء وحتى التصويت تتم عن بعد، فاليوم هناك طب عن بعد وفلاحة عن بعد وحرب عن بعد، ودراسة عن بعد الخ .، فقد مكنت الثورة المعلوماتية من تغيبر وجه العالم، أو هي على الأقل في طريقها الى ذلك، ومن ضمنه الحياة السياسية، تماما مثلما غيرت الثورة الصناعية من قبلها العالم برمته فدفنت العالم القديم دون رحمة مرسلة إياه إلى متاحف التاريخ.
وبرز من ثمة مفهوم الديمقراطية الالكترونية، الذي يحيل الى استعمال تلك الوسائط التكنولوجية الجديدة، في وقت هرمت فيه الديمقراطية التمثيلية ووسائلها التقليدية، في ظل مقاطعة ما فتئت تتصاعد للانتخابات والبرلمانات والأحزاب، وهو ما حتم إعادة النظر في الديمقراطية والسير وفق استراتيجيات وتكتيكات مبتكرة في مجال السياسة، لإعادة الاعتبار للديمقراطية في منابعها الأولى من حيث هي حكم الشعب لنفسه بنفسه دون وسيط .
واليوم فإنّ الديمقراطية التمثيلية تسلم الروح، كما أن السياسة التي تتحدد من فوق تشارف على نهايتها، وفي الأثناء هناك جيش من البيروقراطيين يُحال على البطالة، اذ لم يعد له ما يفعله، وانتفت حاجة الشعوب الى وسطاء يدعون تمثيل مصالحها وتطلعاتها وتحقيق ما تبتغيه، اذ هي نفسها كفيلة بذلك وعلى نحو مباشر من خلال تلك الوسائط الالكترونية عينها .
و توجد تونس اليوم في قلب النقاش حول هذا الطراز من الديمقراطية، وانطلاق الاستشارة الالكترونية يؤكد أنها تتجاوز ذلك إلى التطبيق، وفي حال نجاح ذلك ستمكن الاستشارة من تسهيل التفاعل بين المواطنين فيما بينهم على نحو أفقي أولا وبينهم وبين الحكام عموديا ثانيا، والحد من صرف الأموال الطائلة على الانتخابات، فضلا عن تحفيز المواطنين على المشاركة السياسية كما بيناه. وهذا النوع من الاستشارة لا يلغي نوعا آخر منها، وهو الاستشارة المباشرة، التي تتم عن قرب، مما من شأنه تمكين من لا يقدر على هذه الى اللجوء إلى تلك .
وفي الأثناء تتصارع خطتان، خطة الحوار الوطني التقليدية، بين السلطة والأحزاب والنقابات والهيئات الحقوقية في ما بينها لتحديد مصير الشعب، وهذه جربت ففشلت، والخطة الثانية وهى حوار الشعب مع نفسه ومع الحكام مباشرة دون وساطة .
ومثل كل مولود جديد ستواجه الديمقراطية الالكترونية، ومن ضمنها تلك الاستشارة العوائق من خارجها وداخلها في نفس الوقت، فخارجيا هناك تشكيك في جدواها بالقول إن الشعب لن ينخرط عموما فيها، بسبب افتقاره الى الوسائط الالكترونية وأنها مجرد غطاء لديكتاتورية جديدة، باحثة عن شرعية وهمية، كما يمكن أن تخفي دكتاتورية أساتذة القانون الدستوري، التي تعوض ديكتاتورية الأحزاب والنقابات. وداخليا يمكن أن تعاني من قصور المشرفين عليها، من حيث اختصاصهم والأسئلة التي يطرحونها على المستجوبين وكيفية حوصلتهم للآراء الناتجة عنها وتكثيفها في المقترحات المنتظرة حول النظام السياسي والقانون الانتخابي، خاصة أنه لا معايير واضحة تفسر اختيار هؤلاء دون غيرهم للإشراف عليها، فضلا عن عجز محتمل على فهم ما هو خارج اختصاصهم، مثل الجوانب الفلسفية والتاريخية والنفسية والأنتروبولوجية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن هنا التحديات التي ستواجه هذا النوع من الديمقراطية، بما يدعو الى التساؤل هل جدتها متأتية من شكلها أم من محتواها أو من الاثنين معا ؟ خاصة إذا ربطنا بين الديمقراطية والمجتمع الذي تجري فيه، فطالما هناك انقسام بين غني وفقير فإن أنماط الحكم السياسي ستتأثر بذلك، بما يدعو الى الانتباه إلى محتواها الاقتصادي والاجتماعي وعدم الوقوف فقط عند طابعها السياسي.
جريدة الأنوار، 14 جانفي 2022.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق