السبت، 9 أبريل 2022

انتفاضة أفريــل 1938 في تـونس ضدّ الاحتلال الفرنسي

                                                                           فــاروق الصيّاحي

   لم تتوقّف مقـاومة الشّعب التّونسي للاحتــلال الفرنسي منذ بدأت قوّات جيوش الامبراطوريّة الفرنسيّة تتسلّل إلى التّراب التونسي عبر الجبــال  أو تنزل عبر الموانئ تحت غطــاء "الحمــاية". وقد اتّخذت هذه المقــاومة منذ البدايـة شكل المقــاومة المسلّحـة رغم الفارق في مـوازين القوى خاصّة من نـاحية العتـاد الحربي.

   وبالرّغم من الخيبات، لم يستسلم الشعب في مواجهة الاستعمـار وسياساته دفاعا عن الأرض والوطـن، وواجه في كثير من المرّات عدوّه بالمظـاهرات والمسيـرات التي لم تتردّد السّلطات الاستعمـاريّة في "استقبالها" بالنّـار والرّصاص محدثـة مجازر لازالت ذكراها تتردّد إلى اليـوم مثلما تتردّد ذكرى البطولات التي أقدم عليها الشّعب وسطّرها بدمـائه من أجل تحرير الـوطن وتحقيق سيادته. وكـانت انتفاضة أفـريل 1938 إحدى هذه المحطّـات التي قدّم فيها الشعب تضحيات لا تُنسى في مواجهة جيش لا يبخل في فتح نيران بنادقه على جموع لم يكن لديها من سلاح سوى حناجرها وقبضاتها وإرادتها التي لا تُقهــر.

   فمــا هي خصـائص الأوضــاع التي دفعـت إلى حدوث انتفــاضة أفريــل الدّمويّـة ؟ وكيف تسارعت أطوار المـواجهة بين شعب يكافح من أجـل التحرّر الـوطني وبين استعمــار لا يتوانى عن الدّفـاع عن أرض اغتصبها بكلّ الأشكال ؟

1-   الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة

- الأزمة الاقتصادية: ما إن بدأت تونس، المستعمرة الفرنسيّـة، تتعـافى من الجراح التي خلّفتها أزمة الثلاثينات الاقتصاديّة التي ضربت العالم الإمبريالي ومستعمراته ومناطق نفوذه، حتّى وجدت نفسها تدخل من جديد في أزمة اقتصاديّـة محليّة ناتجة عن تتالي مواسم الجفاف انطلاقا من سنة 1936 وهو ما أدّى إلى نقص كبير في المنتوجات الفلاحيّة ممّا أثّـر سلبا على مستوى التّوازن بين النمو الاقتصادي من جهة والنموّ الديمغرافي من جهة أخرى.

    فعلى المستوى الدّيمغرافي شهدت البلاد حيويّة ديمغرافيّة هامّة في فترة ما بين الحربين. فتزايد عدد السّكان بسرعة من 1.890 مليون نسمة سنة 1921 إلى 2.160 مليون نسمة سنة 1931 وذلك نتيجة ارتفاع نسبة الولادات التي قفزت من 27% سنة 1926 إلى 36% سنة 1936. وقد قدّرت نسبة النمو السكاني بـ21% خلال هذه السّنوات العشر أي بنسبة نموّ سنويّ تساوي 2.1%. وإضافة إلى هذا الاختلال بين النموّ الديمغرافي والنمو الاقتصادي، فإنّ الزيادة الدّيمغرافيّة ستزيد في عدد الطّالبين للشغل وهو ما يرفّـع من أعداد العاطلين عن العمـل وما ينجرّ عن ذلك من انتشار مظاهر الفقر والبؤس والتسوّل.

- تردّي الأوضاع الاجتماعيّة: غلاء المعيشة نتيجة الارتفاع الكبير والسّريع في الأسعار وخصوصا أسعار المواد الأساسيّة نتيجة مواسم الجفاف المتتالية. فقد تراوحت الزيادة في أسعار المواد الأساسية (الزيت،السكر،القهوة، الدقيق، الشاي...) بين 21% و112%.

حصول مجاعة بالبلاد التونسيّة خاصّة في وسطها وجنوبها، وقد أقـامت سلطات الاحتلال "التكايا" وهي عبارة عن محتشدات تؤوي الجياع وأصبحت تمنّ عليهم ببعض الأغطية والملابس والأغذية. وقد عرفت هذه السّنوات الممتدّة بين 1936 و1938 بسنوات الرّوز في بعض المناطق وسنوات الحِلبة في مناطق أخرى وهي دلالـة على حدّة المجـاعة التي ضربت قسما كبيرا من الطّبقات الاجتماعيّة في مناطق كثيرة من الـبلاد.

تفاقم ظاهرة النّزوح الرّيفي في اتّجـاه المدن الكُبرى وخاصّة مدينة تــونس حيث أقام النّازحون أحياءً قصديريّـة على أطراف المدينة وانتشرت الأكواخ والخيم. فقد استقبلت مدينة تونس لوحدها بين 1936 و1946 مائة ألف نازح واستقبلت ضواحيها ما بين 60 ألف و70 ألف آخرين وهو ما جعل هذه الجهة تشهد تضاعفا في سكّانها مرّتين خلال هذه الفترة. وهذا التّفـاقم لظاهرة النزوح الريفي سيزيد من تعميق أزمة المدن ومنها مدينة تونس بسبب تزايد الطلب على الغذاء ومختلف الخدمات والشغل في ظرف أزمة اقتصاديّة وماليّة خانقة.

- الأوضاع السياسية

   لم تكن انتفـاضة 9 أفريل 1938 في تونس معزولـة عن الأحـداث التي سبقت هذا التّـاريخ وإنّما كانت نتيجة لتراكم عمليّات المواجهة التي وسمت العلاقـة بين الشعب التّونسي الغاضب من جهة وسلطات الاحتلال الغاصب من الجهة المقابلة. فلم تكن هناك إمكانيّة لبلوغ تلك المواجهـات المتعدّدة، والتي سقط في أغلبها عدد من الضّحايا في صفوف الشعب الغاضب بين شهداء وجرحى، نهايتها إلّا بحدوث ذلك الانفجـار الكبير الذي قدّم فيه الشعب درسا في التمسّك بسيادته على وطنه ورفضه للاحتـلال ودرسا في الصّمود والمقـاومة.  

   و مع العـودة إلى أهمّ الأحداث التي شهدتها البلاد التونسيّة خلال الأشهر الأخيرة من سنة 1937 والأولى من سنة 1938 يثبت لنا أنّ الأوضاع السياسيّة العامّة قد شهدت تغيّرات كبيرة وقد واكب ذلك تصاعد سريع في نسق الاضطرابات والاحتجاجات التي طبعت الشّـارع وأدّت إلى احتداد المواجهة بين شعب مستعمَر تائق إلى التحرّر وقوّة مستعمِرة متمسّكة بتأبيد الاحتلال.

   فعلى المستوى السياسي، سقطت حكومة الاشتراكي ليون بلوم يوم 13 جوان 1937 لتتولّى مكانها حكومة الرّاديكالي شوطون مقاليد الحكم في فرنسا، وكان سقوط هذه الحكومة إيذانا ببداية التخلّي عن سياسة "الانفراج الوقتي" التي اتّبعتها فرنسا في فترة حكم بلوم والتي كانت لها استتباعاتها على المستعمرات ومن بينها تونس. وكانت عديد المؤشرات التي أقدمت عليها سلطات الاحتلال الفرنسي تشير إلى انقضاء تلك المرحلة وتدشين مرحلة جديدة قائمـة على القمع والاضطهاد. وكان أوّل هذه المؤشّرات إصدار أمر  15 جويلية 1937 الذي يُمـنع بموجبه عقد الاجتماعات العامّـة.

   كان هناك صراع دائر في فرنسا وفي مستعمراتها بين القوى اليمينيّة الفاشيّة من جهة  والقوى الليبرالية الديمقراطية واليساريّة من جهة أخرى نتيجة تصاعد دور التيّارات الفاشيّة في أوروبا منذ العشرينات وخصوصا في أواسط الثلاثينات إثر وصول الحزب النّازي في ألمانيا إلى الحكم. وقد كانت المستعمرات الفرنسيّة مسرحا أيضا لهذا الصّراع، وقد طبعت هذه الصّراعات الحياة السياسيّة في تونس، إذ ارتفع صوت "المتفوّقين" الذين يمثّلون اليمين المتشدّد والذين كانوا رافضين لأيّ إصلاحات تقدم عليها السلطات الفرنسيّة في البلاد التونسيّة وحصلت بينهم وبين أنصار الأحزاب اليسارية عدّة مواجهات أهمّها كانت يوم 14 جويلية 1937. وكانت سلطات الاحتلال الماسكة بالسلطة في تونس تحاول الحفاظ على سلطتها خصوصا أمام تزايد الأطماع الإيطاليّة في السيطرة على تونس التي كانت تضمّ عددا كبيرا من المعمّرين الإيطاليين كان أغلبهم آنذاك (حوالي 90%) من أنصار الفاشية الحاكمة في إيطاليا.

2- تصاعد الاحتجاجات والمواجهات

   كان الكادحون في مقدّمة المدافعين عن حريّة الـوطن، وكانوا في كلّ مرّة يدفعون فاتورة دفاعهم هذا ويقدّمون التّضحيات في مواجهتهم للسياسة الاستعماريّة التي ستشهد تصعيدا خلال هذه المرحلة. ففي 20 جويلية 1937، سقط عاملان من عمّال منجم الجريصة شهيديْن وأصيب عدد آخر بجروح خلال مواجهات مع قوّات الجيش الفرنسي التي تدخّلت لفكّ إضراب بالمنجم بإطلاق الرّصاص على العمّـال المضربين.

   وبعد أقلّ من نصف شهر (2 أوت 1937) من حادثة الجريصة انتقلت العدوى إلى ماتلين في جهة بنزرت، فقد أدّت مواجهة بين عدد من العمّال المضربين والقوات العسكريّة إلى استشهاد كادحيْن بالرصاص وإصابة عدد آخر بجروح. وبعد ذلك حدثت مواجهة يوم 3 سبتمبر 1937 في منزل جميل بين عمّال مصنع الآجر المضربين وقوات الأمن ألقى خلالها المضربون الحجارة على عناصر الأمن مما أدّى إلى إصابة أحد عناصرها بجروح فيما قامت هذه القوّات باعتقال عدد من العمّال الغاضبين.

   لقد دفع العمّـال خلال سنة 1937 عددا لا يستهان به من الشهداء والجرحى ومن المعتقلين وكانوا في طليعة الواقفين على خطّ النّار في مواجهة سلطات الاستعمـار الفرنسي.

   ولن تتأخّر الشرائح الأخرى من الطّبقات الكادحة في التقدّم إلى خطّ المواجهة، ولن تتأخّر سلطات الاحتلال من جهتها في استغلال ابسط المناسبات والأحداث لتوجّه رصاصها نحو أجساد أبناء الشعب حاصدة في كلّ مرّة عددا من الضّحايا وزارعة، في ذات الوقت، في صفوف هذا الشعب مزيدا من الغضب ومن إرادة المقـاومة والعزم على الكفـاح.

   فقد استغلّت قوات الاحتلال الخلافات بين الحزبيْن الدستورييْن القديم والجديد التي احتدّت في خريف 1937 لتتدخّل في أكثر من مرّة وينجرّ عن تدخّلها سقوط عدد من الضّحايا مثلما حدث في ماطر يوم 25 سبتمبر وفي باجة يوم 2 أكتوبر. وكان التونسيّون الغاضبون يردّون الفعل بالتهجّم على القوّات المحتلّة، ففي حادثة باجة أصيب أربعة عناصر من الجندرمة بكدمات وبرضوض، ويوم 31 ديسمبر 1937 قام أحد الموظّفين بالاعتداء على عون شرطة فخلّف له إصابات خطيرة وذلك خلال إضراب لموظّفي "مونوبري" بمدينة تونس.

   و يوم 8 جانفي 1938 نظّم سكّان بنزرت مظاهرة احتجاجا على نفي النقابي حسن النّوري فتدخّلت قوات الاحتلال وحصلت اشتباكات بين الطّرفين استعملت خلالها القوات الاستعمارية الرّصاص، وقد انجرّ عن ذلك سقوط ستّة شهداء وعديد الجرحى واعتقال ستّة من بين المحتجّين كما أصيب عدد غير قليل من قوّات الأمن والجيش بجروح.

   لقد ارتكبت السلطات الاستعماريّة مجازر عديدة ضدّ الشعب التونسي في عدد من الجهات في محاولة منها لإثنائه عن المقـاومة، كما حاولت ترهيبه من خـلال التوصيات التي كانت تُرسل إلى المراقبين المدنيين وممثّليها في الجهات والتي تؤكّد فيها على ضرورة تطبيق القوانين المانعة للتظاهر وللاجتماعات العامّة وللإضرابات. لكنّ الشعب كان مصمّما على مواصلة الكفـاح بالطّرق الممكنة وبالأشكال التي يمتلكها غير عابئ بأوامر المحتلّ وتهديداته وذلك دفاعا عن حقوقه المشروعة، ذلك أنّ الشعوب التي تكافح من أجل تحرّرها الـوطني تهدف إلى طرد الاحتلال فكيف لها أن تأبـه بقوانينه وأوامـره.

   أمـام تصاعد موجة الاحتجاجات والمواجهـات وتقديم الشعب للشهداء والجرحى والمعتقلين، وأمـام استمرار سلطات الاحتلال في اعتماد سياسة القمع وارتكاب المجازر، لم يبق أمـام قيادة حزب الدستور الجديد من مبرّر لمواصلة السير في طريق "الـحوار" الذي كان قد عوّل عليه مع صعود حكومة ليون بلوم إلى السلطة في ماي 1936 اعتقادا منه بأنّ هذه الحكومة ستقدّم إصلاحات اقتصادية واجتماعيّة وسياسيّة في إطار نظام الحماية. فغيّر الحزب عقب مؤتمره المنعقد في أواخر شهر أكتوبر وبداية شهر نوفمبر 1937 في تاكتيكه تماشيا مع الوضع الجديد. ولم يكن هذا الوضع الجديد وحده المحدّد للتوجّهات الجديدة، إذ برز خلال مؤتمر الحزب جناح راديكاليّ دفع في اتّجاه خيار المواجهة مع فرنسا ورفع مطلب الاستقلال الوطني، وحينئذ لم يكن أمام الديوان السياسي غير مجاراة الأمر الـواقع ومحاولة اللّحـاق بالوضع الشّعبي المتفجّر حتّى لا تنفلت من بين يديه الأمور. وقد كان من نتائج هذا التوجّه الجديد للديوان السياسي استقالة رئيس الحزب محمود المـاطري يوم 31 ديسمبر 1937. وقد تجلّى هذا التوجّه الجديد لحزب الدستور الجديد في اتّخاذ فرار قطع العلاقـة مع السلطات الفرنسيّة في باريس وذلك بعد الاستقبال الباهت الذي حظي به بورقيبة خلال زيارته الأخيرة إلى فرنسا، مع أنّ الحزب لم يعلن قطع العلاقـة مع المقيم العـام الذي يمثّل فرنسا الاستعماريّة في تونس. وكان القـرار الثاني الذي اتّخذه الحزب يتمثّل في الإعلان عن إضراب عام تقرّر تنفيذه يوم 20 نوفمبر مساندة للوطنيين في المغرب الأقصى وفي الجزائر واحتجاجا على الإجراءات المتّخذة ضدّهم. 

 3- سياسة زجريّة تلهب نار الكفاح وتنتهي بمجزرة

   أمام تزايد الاحتجاجات الشعبيّة والمواجهات والاشتباكات، وتخوّفا من انفلات الأمور، زادت السلطات الاستعماريّة في سياستها الزّجريّة بإصدار الأوامر المانعة للتجمهر والاجتماعات والسّامحة بمراقبـة الجمعيّات وأنشطتها ومنها الجمعيّات الرّياضيّة ومراقبة المعلومـات وأعطت الأوامر للمراقبين المدنيين في جهاتهم  بإطلاق يد قوّات البوليس والجيش للتدخّل من أجل "الحفـاظ على الأمن". ففي شهر جانفي 1938 لوحده تمّ إصدار أكثر من أمر وتوجيه أكثر من إعلام إلى ممثّلي سلطات الاحتلال في الجهات لمزيد تطبيق القرارات الزّجريّـة ضدّ أيّ نشاط أو تحرّك شعبيّ. وفي هذا الإطار أقدمت هذه السّلطات على حلّ النّقابات التي تعتبرها غير قانونيّة في بنزرت يوم 2 فيفري 1938 وتمّت ملاحقة النقابيين المنتمين إليها قضائيّا وفي 4 مارس تمّ حلّ جمعيّة النّجم الكشفي وأقدمت كذلك على منع المحاضرات ذات الطّابع الثّقافي وبلغ بها الأمر حدّ إغلاق المعهد الصّادقي في 26 مارس 1938.

   وإذا كانت سلطات الاحتلال تهدف من خلال هذه القرارات والأوامر وهذه الإجراءات إلى مزيد إمساكها بالوضع، فإنّ ذلك لن يتحقّق لها بما أنّه كلّما زادت ممارستها للاضطهـاد ستزيد في مقابل ذلك في نشر شرارة الكفـاح. وقد ردّ الشعب على هذه السياسة بمزيد الإصرار على الـمقاومة. فقد دخل طلبة الزيتونة في إضراب ثمّ التحق بهم تلاميذ الصّادقيّة، وبدأت تنتشر مظاهر العصيان عن دفع الضّرائب ورفض تطبيق الأوامر والقوانين، وتزامنت هذه الموجة من المقـاومة مع تزايد التحريض على المواجهة الذي تولّت القيام به عناصر التيّار الرّاديكالي داخل الحزب الدستوري الجديد إثر قيامهم بجولات في عديد المناطق خاصة إثر استقالة رئيس الحزب محمود الماطري، وقد شهد عدد من المناطق تجمّعات جماهيريّة ومظاهرات تخلّلتها اشتباكات مع قـوّات الأمن.

   ومع بداية شهر أفريل شرعت سلطات الاحتلال في تنفيذ إيقافات واعتقالات ضدّ العناصر التي وصفتها بالمحرّضة على التمرّد والعصيـان وهو ما زاد في شحن الغضب في صفوف الجماهير، وبدأت الأوضاع تسير فعلا نحو الانفجـار أيّـام 7 و8 و9 أفريـل. ففي 3 أفريل أعلن المقيم العام الفرنسي، وبلهجة حادّة، انطلاقا من باجة وسوق الأربعاء حيث عقدت اجتماعات حماسيّة، "أنّ هناك عناصر تهدّد التعاون الفرنسي التونسي وهي تطلق دعاية إجراميّة وستتمّ ملاحقة المسؤولين عنها". وبالفعل فقد انطلقت السلطات الفرنسية في شنّ حملة من الاعتقالات منذ ذلك اليوم، فأوقفت يوم 3 أفريل عيسى الصّخري وفي اليوم الموالي يوسف الرويسي وسليمان بن سليمان، وقد ألهبت هذه الاعتقالات حماس الجماهير الغاضبة التي هبّت إلى التظاهر وإلى اقتحام مكاتب المسؤولين الجهويين في وادي مليز وغار الدّماء وسوق الأربعاء غير مبالية بالتهديدات بالتتبعات القضائية وباستعمال الرّصاص مؤكّدة على استعدادها على المواجهة والتّضحية. وسرعـان ما انتشرت المظاهرات والإضرابات في جهات أخرى من البلاد، فأضرب سكّان جزيرة جربة يوم 7 أفريـل وتظاهروا وتمّت مهاجمة المقرّات الرسمية للسلطات الفرنسية ولعملائهم والمتعاونين معهم من التونسيين. وانتقلت المظاهرات الغاضبة إلى صفاقس وتونس والسّاحل وقام الشعب بعمليّات قطع لخطوط الهاتف مثلما حصل بين السند وقفصة.

   و أمام تصاعد الاضطرابات، لجأت سلطات الاحتلال إلى بثّ بلاغات داعية إلى التّهدئة، فأصدر المقيم العام بلاغا في هذا الشّأن كما اعتمدت على المتعاونين معها من التونسيين فأصدر القسم التونسي بالمجلس الكبير بلاغا في نفس الغرض، لكن الشعب التونسي كان قد اتّخذ قرار المـواجهة ولا مجال للتّراجع عن قرار الكفـاح. ففي مدينة تونس أغلقت الدّكاكين أبوابها وأغلقت الأسواق واندلعت المظاهرات الهاتفة بشعارات معادية لفرنسا وللاستعمـار منذ يوم 7 أفريل وكانت قوات البوليس تتدخّل لتفرّقها باستعمـال الهراوات.

   يوم 8 أفريل، بدأت الحشود منذ الصّباح تتحرّك، وقد ذكرت بعض المصادر الفرنسيّة أنّها كانت تحمل الهراوات، بينما أخذت مختلف التشكيلات العسكريّة وشبه العسكريّة الفرنسيّة مواقعها مشهرة أسلحتها مستعدّة للحرب. وبعد الظّهيرة وصل عدد المتظاهرين حسب التقديرات الفرنسيّة ما بين 6 و8 آلاف تجمّعوا قرب مقرّ الإقـامة العـامّة (مقرّ الحـاكم المحتلّ) تتقدّمهم النّساء والأطفـال. وبعد ساعات تفرّقت الحشود دون وقوع حوادث بين الجانبين في محيط مقـرّ الإقامة العـامّة على أن يكون الموعد غدا لمواصلة التّظاهر، مع أنّ الحزب الدستوري الجديد كان يهيّء للتظاهر يوم 10 أفريل(1). ولمّا تفرّقت الحشود اتّجـه قسم من المتظاهرين إلى أمام السجن المدني مطالبين بإطلاق سراح الموقــوفين، وهناك لم تحصل مواجهات بين هؤلاء الغاضبين وقوات الاحتلال انجرّ عنها سقوط ضحايا في صفوف التونسيين، لكن الصافي سعيد يورد في كتابه بورقيبة سيرة شبه محرمة” أنّ المسيرة لمّا وصلت إلى القصبة للتظاهر أمام قصر العدالة اعترضها وابل من الرّصاص حصد "مئتي-200-قتيل على يد الجيش والجندرمة الفرنسيّة." (منشورات عرابي، الطبعة الرابعة، تونس، نوفمبر 2011، ص112)، ونسوق هنا ما أورده الصافي سعيد بتحفّظ كبير لأنّنا لا نعلم أيّ مصدر اعتمده في كلامه هذا ومدى مصداقيّة هذا المصدر خصوصا وأنّه لا يوجد في المصادر المتوفّرة ما يشير إلى سقوط ضحايا خلال ذلك اليوم.

يوم 9 أفـريل 1938: هو يوم المجزرة التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الفرنسي ضدّ أبناء الشعب الغاضبين الذين خرجوا مطالبين بالاستقلال والحريّـة وكلّهم عزم على مواجهة الاستعمـار.

   في صبيحة ذلك اليوم تظاهر حوالي 500 أمام دار الباي في محاولة منهم للضغط على الباي والحكومة التونسيّة للتدخّل لدى السلطات الفرنسيّة من أجل إطلاق سراح المعتقلين.. لكن لا الباي ولا رئيس الحكومة كان قادرا على الردّ بما أنّ لا سلطـة لهما أمام سلطة الاحتلال. وبعد الزّوال بدأت الجماهير تتوافد من الأحياء الشعبيّة الفقيرة القريبة إلى وسط المدينة متّجهة صوب قصر العدالـة الذي كان محميّا بقوّات الأمن والجيش.  وقد حصلت اشتباكات بين المتظاهرين الذين بلغ عددهم حسب المصادر الأمنية الفرنسيّة 1500 محتجّ وبين هذه القوّات بالعصيّ والحجارة والهراوات وسرعان ما انفجر الـوضع حيث أطلقت القوات الفرنسيّة الرّصاص صوب المتظاهرين فأردت ما بين 20 و22 شهيدا(1) ومئات الجرحى في مدّة زمنيّة وجيزة فيما لقي عنصران من عناصر الأمن حتفهما. وقد قدم المحتجّون من الأحياء القصديريّة الفقيرة التي نشأت على أطراف المدينة نتيجة تفاقم حركة النّزوح الرّيفي منذ منتصف الثلاثينيات مثل أحياء الملاسين وراس الطّابية.

   ونورد في هذا الإطـار روايتين لهذه الحوادث:

- الرّواية الأولى للفرنسي روجي كازمجور(2) (Roger Casemajor) التي أوردها في كتـابه

 "L’action nationaliste en Tunisie du pacte fondamental de M’Hamed bey  à la mort de Moncef bey 1857-1948".

   يقول كازمجور متحدّثا عن يوم 9 أفريل: "بعد الزّوال، في الساعة الثّانية... بين 600 و700 شخص يختلفون عن أولئك الذين تظاهروا في الصباح ومن فئة اجتماعيّة أقلّ، تجمهروا أمام قصر العدالة... وقام أعوان السلطة بتفريقهم بواسطة العصيّ... وخلف قصر العدالة... واضطرّ الأعوان لتفريق مجموعة أخرى من المتظاهرين الذين تجمهروا في هذا المكان (خلف قصر العدالة في اتّجاه السجن المدني) لكن الذين تمّ تفريقهم في البداية قاموا بالانتشار في المدينة (العتيقة) طالبين العون من اخوتهم." (ص 127-128) 

   ويضيف كازمجور أنّ "عاصفة الفتنة هبّت على المدينة العتيقة" فأخذت النسوة من سطوح المنازل تطلقن الزّغاريد وتقذفن إلى الشارع بكلّ الأواني والأسلحة التي تمتلكنها.

   ويضيف كازمجور في روايته للأحداث أنّ المحتجّين تجمهروا بعد ذلك في نقطتين هما باب سويقة وباب منارة. ثمّ يورد التطوّر الموالي الذي حصل بعد هذا التجمهر: "خلال هذا التجمّع للقـوى الثّوريّة الذي دام عشرين دقيقة، تلقّى التجمّع الآخر-تجمّع القوّة العامّة- الذي وقف في وجه المحتجّين، ضربات الحجارة، في حين جُرح الجندرمي نيكولا قرب القصبة وتُرك كولمباني للموت أمام المستشفى المدني. نفخ في الأبواق، إنذار باستخدام (القوّة)، فرقة (من الجنود) تضرب بأعقاب البنادق من جهة باب منارة في حين ردّت الشرطة على طلقات نار محتجّي باب سويقة. وهاجمت السيارات الحاملة للرشاشات الجمهور من الخلف في حين كان هذا الجمهور يقلب ويحرق عربات الترامواي ويهاجم السيارات ويلحق الأضرار بالأوروبيين." (ص128)

   ثمّ يورد حصيلة هذه المواجهات العنيفة: "في السادسة مساءً، انتهى كلّ شيء ! عشرة قتلى من بين المحتجّين، قتيل من قوات الأمن ! وعديد الجرحى من هذا الجانب ومن ذاك !"

- الرّواية الثانية لعز الدين عزّوز(3)، أوردها في كتابه التّاريخ لا يغـفر، وهو عبارة عن مذكّرات، الصّادر سنة 1988.

 « Azzedine Azzouz, L’Histoire ne pardonne pas, Tunisie :1938-1969, ed. L’Harmattan, Dar Ashraf Ed, 1988 .»

   يقول عزّوز متحدّثا عن يوم 9 أفريـل وهو شاهد عيان كان قريبا ممّا حدث:" كان اليوم الذي كان يجب أن أمثل فيه خلال المجزرة أمام قصر العدالة بتونس. إنّـه أيضا اليوم الذي شاهدت فيه بعينيّ عشرات التونسيين والتونسيات أطفالا وشيوخا يسقطون حولي كالذّبـاب." (ص.13)

   لم توقف المجزرة الدّمويّة التي ارتكبتها قوّات الاحتلال الفرنسي يوم 9 أفريل 1938 ضدّ الشعب التونسي وخصوصا طبقاته الاجتماعية الأكثر اضطهادا واستغلالا وتضرّرا من الهيمنة الاستعماريّة ولا الإجراءات التعسّفية التي لحقت تلك الأحداث الشعب التونسي على مواصلة الكفاح والمقـاومة. فبالرّغم من إعلان حالة الطّوارئ وحظر التجوّل منذ مساء 9 أفريل في مراقبتي تونس وسوسة وتوسيع عمليّات الاعتقال والملاحقة، تواصلت الاحتجاجات في جهات أخرى ومنها جهة الـوطن القبلي حيث تمّت مهاجمة مصالح المعمّرين والاحتلال وهو ما حدا بسلطات الاحتلال إلى إعلان حالة الطّوارئ في المراقبة المدنيّة بقرمبالية (الـوطن القبلي) انطلاقا من يوم 10 أفريل.

---------------

المــلاحظات:

(1)- كان الحبيب بورقيبة إبّان أحداث 9 أفريــل يرى أنّ الأمور قد انفلتت من بين يديه ومن أيادي حزبه بعد أن مرّت مظاهرة 8 أفريل الحاشدة دون إراقة دماء. وحسب ما أورده علي معاوي في ذكرياته، فقد عبّر بغضب وتحسّر عن فوات هذه الفرصة موجّها لومه إلى كلّ من المنجي سليم وعلي البلهوان. يقول علي معاوي: "كان الزعيمان سليم والبلهوان مع بورقيبة في غرفته، فاستقبلهما بألفاظ في منتهى الحدّة وهو في أشدّ فورة الغضب يتحسّر على هذه الفرصة الذّهبيّة التي ضاعت على الحزب" (ص.50).

   المعاوي (عليّ): ذكريات وخواطر، منشورات المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، سلسلة مذكرات، منوبة 2007.

   وفي نفس السّياق يورد كازمجور حول هذه الحادثة الفقرة التالية: وفي نفس الليلة قدم محمود الماطري إلى بيت بورقيبة داعيا إياه إلى إصدار أوامر بالتهدئة واعتماد خطاب معتدل تخوّفا من عمليّة قمع قد تكون نتائجها خطيرة ومنها حلّ الحزب الدّستوري، لكن بورقيبة أجابه بهذه العبارات:"اسمعْ ! نحن الآن في طريق لا يمكننا فيه التّراجع ; يجب علينا أن نكون منتصرين أو فسنندثر. أنت تضيع لي وقتي. اُتركني هادئا "

   كازمجور، ص.126.

(2)- هناك عديد الاختلافات حول عدد الشهداء يوم 9 أفريل. فالمصادر الرسمية لسلطات الاحتلال الفرنسي وخصوصا التقارير الأمنيّة تذكر أحيانا 20 قتيلا وأحيانا أخرى 22 قتيلا وأحيانا ثالثة 18 قتيلا وقد يكون العدد أكثر من المتداول (20 أو 22) نظرا لأنّ عديد العائلات التونسيّة لم تكن تعلن أو تفصح عن شهدائها أو جرحاها في هذه الحالات وذلك تخوّفا من التتبّعات وسياسة العقاب التي قد تلحقها من قبل السلطات الاستعماريّة في حالة الإعلان عن ذلك.

   بينما يذكر كازمجور أن عدد القتلى من بين التونسيين 10 وهو رقم مخالف لما هو متداول وذلك يعود إلى محاولة هذا الاخير التخفيف من حدّة الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال خاصّة وأنّه كان يشتغل في الأجهزة الاستخباراتية لسلطات الاحتلال.

ويرجّح المقيم العام لويس بيريليي في ذكرياته وشهادته حول تونس، بالصّفحة 49 أنّ يكون عدد القتلى يوم 9 أفريل هو 40 على الأقلّ رغم أنّ الإقامة العامة تقول 22.

 Louis Périllier, La conquête de l’indépendance tunisienne, Ed. Robert Laffont, Paris 1979.

   ونعثر في كتاب بعنوان "بين تونس وفرنسا: كفاح مرير طيلة ربع قرن في سبيل التعاون الحر"، صادر عن المطبعة الرّسمية بدون تاريخ، الذي يتضمن مقالات وتصريحات ورسائل بورقيبة للفترة الممتدة بين 1933 و1954، على هذا العنوان:"8 و9 أفريل 1938 يومان من الأيّام التاريخية -122 ميّتا و62 جريحا-"، ثمّ يضع المؤلّف فقرة تقديميّة قصيرة للمقال الذي كتبه بورقيبة يوم 9 أفريل ولم يصدر، وجاء في هذه الفقرة ذكر لأعداد المتظاهرين الذين خرجوا يوم 8 أفريل، وقد بلغت الأعداد حسب هذا المؤلّف "الثمانين ألف نسمة بالحاضرة خرجوا في هدوء ونظام، وما يقرب من مليون طافوا في كافة البلاد التونسية." (ص. 205.)

   أمّا الصافي سعيد فيذكر في كتابه "بورقيبة: سيرة شبه محرّمة" بالصفحة 112 أنّ عدد القتلى قدّر بـ200. وقد أخذ الصافي سعيد هذا الرقم عن كتاب:

Les chemins de la décolonisation de l’empire français, sous la direction de Charles Robert Ageron, Paris,cnrs, p.86.

 (3)- روجيه كازمجور، هو موظف في الاستعلامات العامة الفرنسيّة، ولد بقفصة، يتقن اللغة العربية واللهجة التونسيّة، وكتابه هذا هو عبارة عن تقرير داخلي ألّفه في أواخر الأربعينيات.

(4)- عز الدين عزّوز، هو مناضل وطني تونسي، كان من المتحمّسين لاستعمال السّلاح في مواجهة الاستعمار الفرنسي، تدرّب في صفوف الجيش السوري على استعمال الأسلحة، اختلف مع قادة حزب الدستور الجديد حول أشكال الكفاح.

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق