الأحد، 3 أبريل 2022

بعض أطروحات فريدريك أنجلس العسكرية ‏

فريد العليبي

   اهتمَّ فريد ريك أنجلس بمعالجةِ القضايا التي تثيرها الحربُ حتّى أنّه لقب بالجنرال، ولم يكتفِ بالكتابة حولَ الحرب، إنّما مارسها أيضًا، فقد شارك المنتفضين تمرّدهم المسلّح، وقاتل في ثلاثِ معاركٍ على الأقلّ في بروسيا الرينانيّة، خلال الانتفاضات الكبرى التي هزّت أوروبا أواسط القرن التاسع عشر، لكن الإحاطة الشاملة بما كتبه تواجه صعوبة، وهو ما يصحّ على كتابات ماركس في الشأن نفسِهِ أيضًا، فبعض ما كتباه ضاع ببساطةٍ أو تمّ تجاهله. وقد يفسّر ذلك،  بأنّ المسألة العسكريّة عند تناولها من زاويةٍ

بروليتاريّة؛ تصبح مشبّعةً بالخطورة، فهي ذخيرةٌ ثوريّة، بما تحيل إليه من عنفٍ آخرَ غير العنف الذي تحتكره الدولةُ البرجوازيّة، فتكون بذلك   غاية معظم كتابات أنجلس الأخرى، هي تمهيد الطريق إلى هذا العنف بالذات، وتأكيد دوره  في التاريخ، من حيث هو قاطرته في المجتمعات الطبقيّة، إذ يتعلّقُ الأمرُ معه بالإجابة عن سؤال: كيف نقوم بالثورة، التي هي حدثٌ عمليٌّ من حيث جوهرُها وليست فقط مسألةً نظريّةً  محضة، وهو ما  شدّد عليه ماركس مبكرًا، من خلال الربط بين سلاح النقد ونقد السلاح؟

وغنيٌّ عن البيان أنّ الفلاسفة لا يثيرون هلع البرجوازيّة، عندما يهيمون مع الأرواح اللطيفة بتأمّلاتهم المنعزلة عن الواقع، ولكن ذلك الهلع؛ يصبح حقيقةً، عندما يحلّلون ما يجري حولهم ويدفعون تجاهَ تغييره؛ فتتحوّل أفكارهم إلى قوّةٍ مادّيّة، من خلال البروليتاريا ولأجلها، وهو ما يصحُّ تحديدًا على الماركسيّة في عصر الرأسماليّة، وخاصّةً الإمبرياليّة التي هي مرحلتها الأعلى، حيث تصبحُ الحربُ والإمبرياليّة توأمين لا يفترقان.

 ومن جهة التأريخ؛ جرى في ألمانيا الشرقية سنة 1964، نشر مجلدين من الكتابات العسكريّة لماركس وانجلس، حيث يقول: روجيه دونجفيل "بحسب ما  أعلمه، فإنّه لم يتمّ نشر مجلدين من كتابات انجلس العسكريّة المختارة إلا سنة 1964، عندما بلغت الحرب الباردة  نقطةً "ساخنة "، لكنّها تضمّنت ببساطةٍ مؤلفات كانت قد نشرت بالألمانية، ولم تتضمّن المؤلفات العسكريّة المتّصلة بالرؤية العامة والأممية  لماركس وأنجلس فكانت تلك نشرة ظرفية"  Marx et Engels Ecrits militaires. Violence  et constitution  des  états  européens modernes .  Traduit et présenté par Roger Dangeville  .Herne Paris 1970

ومن هنا، كان اهتمام هذا الباحث الفرنسي، بترجمة مؤلفات ماركس العسكريّة إلى الفرنسيّة، وإنجاز مقدّمةٍ تحليليّةٍ لها في الكتاب الذي ورد فيه ذلك التنويه، وهو يتضمّن 621 صفحة، مرجّحًا أنّ نشرةً كاملةً  لتلك المؤلّفات العسكريّة ستجمع عشرة مجلّدات، كلّ واحدٍ منها بسعة 600 صفحة، إذا كانت ستتضمن الصراعات الطبقيّة في فرنسا، وحرب الفلاحين في ألمانيا، والحملة من أجل تكوين الرايخ، والثورة والثورة المضادة في ألمانيا، والمقالات العسكريّة المنشورة سابقًا والمترجمة في المؤلّفات السياسيّة، حول الحرب الروسيّة التركيّة والحملة في القرم والثورة الإسبانيّة الخ.   

أمّا من جهة المكان، أي البلدان التي اهتمّ انجلس بحروبها، فإنّنا نلاحظ تنوّعها، فقد كتب حول حرب غاريبلدي في سيسيليا، وحرب القرم، والحرب الأهليّة في أمريكا، وحرب الفلاحين في ألمانيا، والانتفاضات الكبرى في 1848 في أوروبا، والحرب الفرنسيّة البروسيّة 1870، وأخيرًا فإنّه من جهة الزمان،  كتب انجلس حولَ الأحداث العسكريّة للقرن التاسع عشر، هذا القرن  الذي عاشه بأكثر تفاصيله، فقد ولد في ربعه الأوّل ومات ولم تبقَ منه، غيرُ خمس سنوات، ومن هنا يوفّر لنا ما كتبه خلال ذلك فرصةً مهمّةً لفهم أحداث ذلك القرن، وهي التي مهّدت للقرن العشرين المليء بالعـــــــواصف، من ثوراتٍ وحروب، بما فيها العالميّة.

وكان لافتًا تنبّؤ انجلس بالحرب العالميّة الأولى ويقينه أنّها ستكون مدمّرة؛ فسيقتل ملايين البشر، وتعمّ الفوضى الاقتصاد والاجتماع وستموت دولٌ وتولد أخرى، حيث يقول: "بالنسبة إلى بروسيا وألمانيا، لم يعد هناك حرب أخرى غير حربٍ عالميّة، أو أفضل من ذلك، حرب عالميّة ذات نطاقٍ وشدّة لم يعرفها أحدٌ من قبل؛ ثمانية إلى عشرة ملايين جندي سيذبحون بعضهم البعض، ويفرغون أوروبا من كلّ المواد... سينتشر الدمار عبر القارّة؛ المجاعات والأوبئة والفقر المدقع، ستعيد الجيوش الجماهير إلى البربريّة. إنّ الفوضى التي لا توصف للنشاط البشري في التجارة والصناعة والاتّصالات، ستؤدي إلى الإفلاس العام؛ الدول القديمة بحكمتها التقليديّة ستنهار، سوف تتدحرج؛ عشرات أكاليل الزهور، ستكون على الرصيف، ولن تجد من يلتقطها. لا يمكن التكهّن كيف سينتهي ذلك كلّه، وأي من المتحاربين سيخرج منتصرًا من القتال. نتيجة واحدة فقط مؤكّدة تمامًا: سوف ينهك الجميع، وستكون لدينا الشروط لتحقيق النصر النهائي للطبقة العاملة". وهذا ما حصل فعلًا، فقد اندلعت تلك الحرب، ومن أحشائها؛ جاءت الثورةُ البلشفيّةُ التي سبقها انجلس بالقول: "إنّ قيام ثورة في روسيا، سيكون له تأثيرٌ هائلٌ على الوضع الدوليّ... في اليوم الذي تسقط فيه القيصريّة هذا الحصن الأخير للرجعيّة الأوربيّة بأسرها، سوف تهبّ على أوروبا رياح مختلفة"، وهذا ما يفرض مقارنة تلك اللحظة التاريخيّة بوضع عالمنا اليوم، حيث تخيّم ظلال حربٍ عالميّةٍ جديدةٍ بثقلها على كوكبنا وتتكلّم المدافع والبنادق والصواريخ في أوكرانيا منذرةً بها، وليس هنا مقام القيام بذلك، لهذا نكتفي الآن  بملاحظة: أن الحرب العالميّة الأولى جاءت بثورة البلاشفة، والثانية بالثورة الصينيّة، ويبدو أنّ الثالثة في حال حصولها إمّا أن تؤدي إلى زوال البشريّة أو إلى ثورتها الشاملة.

ونحن لا نزعم في هذا النص الإمساك التام بناصية كلّ أفكار انجلس العسكريّة، إنّما بعضها فقط، في محاولة تقديم لمحةٍ عنها من خلال حوصلتها في أطروحاتٍ عامّة ومختصرة كما يلي، دون نسيان أن انجلس بلورها، وهو يعيش غالبًا الوقائع الحربيّة، فضلًا عن توجّسه من المراقبة الأمنيّة المفروضة على ما يكتبه:

1ـ لا تحاول القيام بثورةٍ مسلّحة؛ إلا إذا كنت مستعدًّا تمامًا لمواجهة عواقب محاولتك، فعندما تكون القوى التي تواجهك متفوّقةً عليك بتنظيمها وانضباطها وعدّتها وعتادها، بينما لا تمتلك أنت القوّة الكافية وتغامر بالثورة، فإنّ هزيمتك مؤكّدة.

2. على الثائر أن يظهر تصميمًا عظيمًا في ثورته، وأن يتّخذ جانب الهجوم؛ الدفاع هو موتُ كلّ ثورةٍ أو انتفاضةٍ مسلّحة، على الثوار مفاجأة أعدائهم عندما تكون قوّاتهم مبعثرة، وعليهم تحقيق انتصاراتٍ جديدةٍ ويوميّة، مهما كانت صغيرة، والمحافظة على تصاعد معنوياتهم التي أعطتهم إياها أوّل انتفاضةٍ ناجحة.

3. يجب استمالة المترددين والخائفين واستقطاب العناصر التي تقف إلى جانب العدو، لاعتقادها أنّه الأقوى والأقدر على أن يوفّر لها الأمان.

4. إجبار العدوّ على التراجع وحرمانه من فرصة تجميع قوّاته.

5. إنّ كلَّ أمةٍ تستسلم، لأنّ جيوشها لم تستطع المقاومة هي أمة جبناء تستحق كل احتقار.

6. كلّ أمّةٍ شنّت حربَ عصاباتٍ ضدَّ الغزاة إلا وانتصرت.

7. انتصار الثورة على الجيش في حرب الشوارع، مثلما يحدث عند انتصار جيشٍ على آخر أمرٌ نادر، لكن الثوّار في الواقع لا يأملون بالانتصار في حرب الشوارع، فهي بالنسبة إليهم وسيلةٌ لجعل الجنود يخضعون لتأثيراتٍ أخلاقيّة، فإذا نجح الثوّار في إخضاع الجنود لذلك التأثير؛ يمتنع الجنود عن مقاتلتهم، وقد ينقلبون على قادتهم وتنتصر الثورة، أمّا إذا فشلوا في إخضاع الجنود لتأثيراتٍ أخلاقيّة، فإن الجيش بتفوّقه العسكري، وخاصة في مجالي التسليح والتدريب، سيسحق الثوار.

8. من الصعب الدفاع عن المتراس، والانتصار سياسي لا عسكري، وأقصى ما يمكن للثوار تحقيقه في مجال التكتيك الفعلي هو إقامةُ حاجزٍ أو متراسٍ واحد والدفاع عنه، ولكن من الصعب الدفاع عن حي في مدينة، دع عنك الدفاع عن المدينة كلها، كذلك فإنّ تجميع القوات في نقطةٍ حاسمةٍ أمرٌ مستحيل، ومن ثَمَّ فإنّ الدفاع السلبي هو شكلُ القتال الشائع، ويقتصر هجومُ الثوار على احتلال مواقع يخليها الجنود المتراجعون، وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ لدى الجيوش مدفعيّةً وسلاحَ هندسة؛ جاهزَ التسليحِ وأجهزةً حربيّةً أخرى لا يملكها الثوار؛ فلا عجب إذا رأينا أنّ أعظم معارك المتاريس بطولة انتهت بهزيمة الثوار في اللحظة التي تخلّى فيها قادة الثورة عن الاعتبارات السياسيّة وتصرّفوا بناءً على وجهة نظرٍ عسكريّةٍ بحتة.

 9. في أوج حروب الشوارع كان للمتراس أثرٌ معنويٌّ أو أخلاقي؛ أكثر منه أثر مادي، وعندما كان المتراس قادرًا على الصمود لحين إحداث الأثر المعنوي كان يربح المعركة، وحين لم يصمد لتلك اللحظة كان ينهزم، هذه هي النقطة الرئيسية التي يجب أن يدركها ويذكرها كل من يخوض حرب شوارع في المستقبل.

10. بعدَ كلّ ثورةٍ فاشلةٍ يلقي البورجوازيون في كلّ مكانٍ ثقلهم وراء الحكومات، مهللين لتحرك الجيش ضدّ الثوار، فيزول سحر المتراس؛ لأنّ الجندي لم يعد يرى "الشعب" خلفه، بل أصبح يرى خلفه المتمردين والمخرّبين واللصوص وحثالة المجتمع، كما أنّ الضباط يكونون قد تعلموا فنون حرب الشوارع، وأقلعوا عن مهاجمة المتراس من الأمام، ثم أصبحوا يهاجمونه من البيوت والحدائق المحيطة.

11. هل يعني هذا أنه لن يكون لحرب الشوارع دورٌ في المستقبل؟ طبعًا لا. إنّه يعني أنّها أصبحت منذ عام 1848 في صالح العسكريين أكثر بكثيرٍ مما هي في صالح الثوار، ويمكن إذًا أن تنتصر حرب الشوارع في المستقبل؛ إذا تمّ تعديل هذه الحالة السيئة بواسطة عوامل أخرى، ومن ثَمَّ، فإنّ الثورات المسلّحة تحتاج إلى عددٍ أكبرَ من المسلّحين، وتحدث أثناء ثورة عظيمة، وليس في بدايتها.

12. إذا كانت هناك ثورةٌ عظيمةٌ وعددٌ كبيرٌ من الثوّار المسلّحين، فقد يفضّل هؤلاءِ الهجوم العلنيّ العام على فنّ المتراس السلبي، كما حدث في الثورة الفرنسيّة العظمى، وكذلك في حركتي 4 أيلول و31 تشرين الأوّل 1870 في باريس.

13. مضى إلى غيرِ رجعةٍ أوانُ الثورات التي يقوم بها قلّةٌ من الأشخاص الواعين على رأس جماهيرَ غيرِ واعية؛ فحين تكون القضيّةُ قضيّةَ تغييرٍ تامٍّ في التنظيم الاجتماعي على الجماهير نفسها المشاركة في هذا التحوّل، وعليها أيضًا وعي خطورة الأمر، ومعرفة لماذا هي تقاتل روحًا وجسدًا؟ لكن إفهام الجماهير ماذا يجب عمله يتطلّب جهودًا كبيرةً وعملًا متواصلًا من جانب القلّة الطليعيّة الواعيّة؟

14. ربّما تدفعنا الحرب (العالميّة) للوراء لبعض الوقت، وستقوم بلا شكٍّ بإبعادنا عن العديد من المواقع التي تمَّ احتلالُها بالفعل، لكن عندما تطلق العنان للقوى التي لن تكون قادرةً على السيطرة عليها بعد الآن، فإنّ الأمور ستتبع مسارها الخاص بلا هوادة: في نهاية المأساة، ستدمّر، وسيكون انتصار البروليتاريا؛ حتميًّا في النهاية. 

15. لا شيءَ محدّدٌ أكثرُ من غيرِهِ بالظروف الاقتصاديّة من الجيش والبحريّة؛ التسليح وبنية الجيوش؛ تنظيمها؛ تكتيكها واستراتيجيّتها؛ مرتبطة مباشرة بالمستوى الذي بلغه نمط الإنتاج ووسائل الاتّصال.

---------------

نشر هذا المقال في العدد 36 من مجلة الهدف الإلكترونية

   السبت 02 ابريل 2022 | 08:42 ص

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق