فريد العليبي
تشهد تونس وهي تستعد للتصويت على مشروع الدستور الجديد نقاشا عموميا حول مسائل كثيرة، ومنها ما يُطرح لأول مرة بحدة، مثل مسألة المقاصد، وتدخل في ذلك النقاش صحفيون وسياسيون ورجال دين وأساتذة جامعات الخ .. وأسهم ذلك غالبا في فتح العين على قضايا ظلت دون نظر رغم صلتها بتطور الدولة والمجتمع في لحظتهما الراهنة.
وكان لافتا أن ما ورد في ذلك المشروع هو عبارة مقاصد الإسلام عوضا عن مقاصد الشريعة. وبينما فهم البعض ذلك على أنها مخاتلة الغرض منها فتح الباب لاحقا أمام تأسيس دولة دينية قال آخرون إنه دليل ذكاء، غايته تجريد الإسلام السياسي من أحد أسلحته وهو الشريعة التي طالما رفعها كشعار للتمويه. وإذا كانت الشريعة جزءا من الإسلام في عرف عدد من الفقهاء على الأقل فإن ذلك يترتب عنه أن الحديث عما هو أعم وأشمل أفضل من الحديث عما هو جزئي وخاص.
واتجه النقاش شيئا فشيئا ناحية تأويل الآيات فاذا كان القرآن حمال أوجه وقابلا للتأويل فإن البحث في الغايات والمقاصد والمعاني يفرض نفسه، وإذا كان الدين يُسرا لا عُسرا وسماحا ورفقا فإن الأحكام يجب أن تراعي ذلك، وهنا بالذات تتنزل نظرية المقاصد للشاطبي التي دار النقاش حولها.
يستعمل ذلك الفقيه الأندلسي المعاصر لابن خلدون عبارة مقاصد الشريعة، وهذه برأيه معنية بمراعاة مصالح الناس، وطالما أن تلك المصالح متغيرة بتغير المكان والزمان وجب على الأحكام التطابق معها، فالدين خالد وحياة البشر متبدلة، وهنا يلعب الاجتهاد دوره لحل التناقض بينهما. ومن هنا اتجاهه ناحية روح الشريعة والاجتهاد في فهم معانيها على ضوء الواقع عينه بقوله "تنزيل العلم ( الشرعي = الفقه ) على مجاري العادات تصحيح لذلك العلم وبرهان عليه اذا جرى على استقامة، فإذا لم يجر فغير صحيح". و قد أحسن محمد عابد الجابري شرح كلام الشاطبي هذا باعتباره " يعني أن الواقع التجريبي والاجتماعي هو المرجع، واذا تعارض معه نص شرعي وجب تأويله ليتوافق معه".
ورأي الشاطبي له ما يماثله لدى ابن خلدون، أما جذور النظرية المقاصدية فتعود برأينا الى ابن رشد الذي كان من بين من مهدوا لها فالشريعة يجب أن تتطابق مع المعرفة البرهانية العقلية بهذا الموجود أو ذاك، وإذا قال ظاهرها نقيض ذلك استوجب الأمر تأويلها لسبب بسيط وهو أن الله لا يمكن حسب فيلسوف قرطبة أن يعطينا عقولا ويعطينا في نفس الوقت شرائع مخالفة لها. علما ان الشاطبي يذكر ابن رشد في كتابه "الموافقات" بينما سكت عنه كثيرون لما لحقه من قدح في إيمانه إبّان محنته. وغني عن البيان أن تلك الفكرة تتفق مع رأي مدرسة كلامية عقلية لا نعثر لها اليوم على أثر تقريبا بعد نكبتها وحرق كتبها ونعني المعتزلة عدا بعض المصنفات الوجيزة للقاضي عبد الجبار.
ويبدو أن قيس سعيد مدرك لهذه القضايا لذلك كان استعمال عبارة مقاصد الإسلام كما ذكرنا فضلا عن استبداله العقل بالحرية، بما يشير الى أن العقل يستوجبها وهو متضمن فيها. ورغم خطورة هذا الاستبدال لم يلتفت اليه تقريبا أحد، وعندما حصل تشكيك في الغاية من ذكر سعي الدولة الى تحقيق مقاصد الاسلام جاءت تنقيحات نص مشروع الدستور لتشترط ذلك بوجود نظام ديمقراطي.
وما يمكن أن نخلص اليه في علاقة بذلك النقاش هو أنه عندما تسيطر جماعة دينية ظلامية على الدين، مستعملة اياه أداة للسيطرة على المجتمع والدولة يجب أولا تحرير الدين من سطوتها بتسليط النقد السياسي عليها باعتبارها تتوسل الدين خدمة لمصلحتها لا مصلحة الله، ثم تحرير الدولة نفسها من قبضتها، ووقتها يصبح الدين ملكا للدولة لا للجماعة. ويحدث هذا في مجتمعات ما قبل حديثة وهو حال مجتمع التونسيين الآن والعرب أجمعين، وعندما تدرك تلك المجتمعات حداثتها الفكرية والسياسية يكون الفصل بين الدولة والدين، ليتحول الدين إلى قضية شخصية لا قضية دولة. وتلك المهمة الأولى تحتاج نظرية المقاصد فهي تُسهل للتونسيين تحرير الدين من الجماعة من جهة وتحقيق المطابقة بين الإسلام وأحوالهم الراهنة من جهة ثانية، بما يسمح لهم بالقطع مع العوائق التي نصبتها الجماعة أمام نهضتهم الفعلية.
جريدة الأنوار 22 جويلية 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق