بعد 48 يوما من عمليّات الإبادة التي لم تنقطع لا ليلا ولا نهارا التي مارسها الكيان الصّهيوني المحتلّ ضدّ الشعب العربي في فلسطين وخصوصا على قطاع غزّة، وقع الاتّفاق بين الكيان والمقاومة الفلسطينية، بتدخّل ووساطة من قوى عالمية وإقليمية، على الدّخول في "هدنة إنسانيّة" لمدّة أربعة أيّام انطلاقا من يوم 24 نوفمبر 2023 ثمّ تمّ تمديدها مرّتين بيومين ثمّ بيوم واحد..
وقد أثار "قبول" المقاومة الفلسطينية بهذه الهدنة عديد التساؤلات تتمحور بالأساس حول الجدوى المرجوّة منها وطُرح سؤال رئيسيّ هل أنّ المقاومة ستستفيد من هذه الهدنة أم لا خصوصا وأنّ الكيان المحتلّ يصرّح باستمرار بمواصلة حرب الإبادة من أجل تحقيق الأهداف التي أعلن عنها بقطع النّظر عن الأهداف بعيدة المدى وغير المعلنة ؟
لقد لعب الإمبرياليون الأمريكيّون الدّور الرّئيسي في التخطيط للهدنة والتباحث في تفاصيلها، ومارسوا ضغطا على حكومة الكيان التي أبدت من خلال تصريحات رئيسها تعنّتا في البداية لكنّها قبلت بالقرار في النّهاية واستسلمت للضّغط الأمريكي. كما أنّ الكيان أذعن لأصوات المستوطنين التي ما فتأت تتصاعد يوما بعد يوم منذ السّابع من أكتوبر بعد أن طال الانتظار دون أن تفي حكومتهم بوعدها وهو استرجاع الأسرى والمحتجزين رغم مرور أكثر من شهر ونصف على بدء حرب الإبادة التي لم تفلح لا عمليات القصف الوحشي ولا عملية الاقتحام البرّي في تحقيق هذا الهدف المعلن من قبل نتنياهو.
لقد فقد الكيان المحتلّ الدّعم السياسي المطلق الذي منحه له الإمبرياليون الأمريكيون في البداية كما خسر الكثير عسكريّا على أرض المعركة دون ان يصل إلى خيط واحد يضيء له الطّريق إلى المحتجزين والأسرى وبالتالي فقد جزءا كبيرًا من الدّعم من داخل الكيان، وهو ما أجبر قيادته على القبول بالهدنة أوّلا وبشروطها ثانيا. وبالعودة إلى الجانب العسكري، فقد أبرزت الحصيلة على الميدان الهزيمة التي لحقت بالكيان وجيوشه، وقد اعترف بذلك في أيّام الهدنة لمّا أعلن عن أعداد المصابين التي تجاوزت الألف وهذا الاعتراف يؤشّر انّ أعداد القتلى كانت أضعاف ممّا تمّ الإعلان عنه فضلا عن الآليات بمختلف أصنافها وأنواعها.
إنّ قبول الكيان الصّهيوني بالهدنة الإنسانيّة يؤكّد من جهة فشله في تحقيق "محو حماس من الخريطة" و"تحرير الرّهائن"، كما أعلن في بداية حربه الإبادية، وتؤكّد من جهة ثانية فشله في إقناع العالم بمشروعية الإبادة والجرائم والمجازر التي يرتكبها، بل إنّ "التعاطف" الذي كسبه صبيحة 7 أكتوبر سرعان ما فقده. أمّا من جهة ثالثة، فإنّ هذا القبول بالهدنة يؤكّد هزيمة أخرى للكيان حيث أجبر على القبول بها رغم إصراره في تصريحاته أنّه غير مستعدّ لمثل هذا المسار وهو ما تسبّب في تأخير الوصول إلى الهدنة حيث استغرقت المباحثات أيّاما طويلة وكلّفت ممثّلي الإمبريالية الأمريكيّة اتّصالات ورحلات كثيرة وطويلة.
وبالعودة إلى مبدأ القبول بالهدنة، فقد خسر الكيان عسكريّا وسياسيّا وعالميّا وداخليّا دون أن نتطرّق إلى تعداد وإظهار الخسائر التي لحقت به على المستويين الأخلاقي والإنساني. وبهذه الحصيلة، ومن هذا المنطلق، فإنّ المقاومة الفلسطينيّة بقبولها بهذه الهدنة تكون قد حقّقت انتصارًا تكتيكيّا مهمّا.
ومن الدّلائل الأخرى لهذا الانتصار التكتيكي الذي حقّقته المقاومة، تلك الشّروط التي تضمّنتها الهدنة الإنسانيّة، وأوّلها الشروط الإنسانيّة التي ستقلّل من آثار الحصار الخطير الذي فرضته حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني لحواليْ خمسين يومًا من خلال حرمانه من مختلف المواد المعيشيّة الضّروريّة زيادة إلى الحاجة المتزايدة للمواد الطبية والصحية الضّروريّة للعناية بالمصابين والمرضى بسبب مخلفات القصف الوحشي الذي طال العباد والمؤسسات الصحيّة. صحيح أنّ الخسائر البشريّة كانت كبيرة جدّا وكذلك الدّمار الكبير الذي لحق المنشآت السكنية والصحية والتعليمية وغيرها، وصحيح أنّ قوافل وشاحنات المساعدات التي تدخل عبر معبر رفح غير كافية لتوفير كلّ ما يستحقّه سكّان قطاع غزّة، لكنّ إيقاف آلات الحرب يوفّر للسكان متنفّسا ووضعًا أفضل من وضع حالة الحرب. أمّا ثاني هذه الدّلائل، فهو الشّرط المتعلّق بتبادل الأسرى والمحتجزين، حيث أنّ المقاومة تحقّق أحد أهمّ أهدافها وهو تحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وهو الهدف الذي أعلنت عنه المقاومة منذ السّابع من أكتوبر، وبالتالي، فإنّ مبادلة الأسرى الفلسطينيين بالمحتجزين لديها من غير العسكريين –في مرحلة أولى- هو مكسب للمقاومة ومكسب للشعب العربي الفلسطيني خصوصا وأنّ الاحتلال لم يقدر على "تحرير" أسراه عن طريق الحرب وهو الذي نادرًا ما يخضع لمثل هذا الشّرط.
ومن خلال شروط الهدنة، إدخال المواد الغذائية والصحية والإغاثية وفكّ الحصار وتحرير الأسرى الفلسطينيين مقابل المحتجزين بثلاثة أضعاف العدد، فإنّ المقاومة هي التي وضعت هذه الشروط، وطبعا المنتصر دائما هو من يضع شروط الحرب ويفرضها على المهزوم.
وتوفّر الهدنة، زيادة على محتواها الإنساني، للمقاومة الفلسطينيّة ردهة من الزّمن لإعادة تنظيم أوضاعها القتالية وتحيين خططها وتوفير الإمداد وتغيير تكتيكاتها العسكريّة، فهي، من وجهة نظر عسكريّة، هي الأكثر استفادة من هذه الهدنة مقارنة بالعدوّ، بعد أيّام طويلة من القتال المتواصل، وليست الهدنة إلاّ "استراحة مقاتل" يسترجع من خلالها الفدائيّون أنفاسهم ليتهيؤوا لمواصلة الحرب العادلة، حرب التّحرير الوطني. امّا بالنسبة للعدوّ، فإنّ استفادته عسكريّا هي أقلّ من ناحية الامداد، بل إنّ وقف الحرب مؤقتا وإذا ما طالت مدّة الهدنة قد تبثّ التململ في صفوف الجنود الذين يعانون مسبقا من انكسار معنوياتهم نتيجة الفشل الذي مُني به التوغّل البرّي في بعض المساحات الضيّقة من قطاع غزّة. وإذا كانت المقاومة الفلسطينية تقاتل من اجل تحرير الأرض والوطن وهي مستعدّة لمواصلة الكفاح في أيّ زمن، وهي في غمرة النجاحات التي حقّقتها من خلال تصدّيها لتوغّل جيوش الغطرسة النازية وفي غمرة النجاح في تحرير الأسرى من سجون الاحتلال ستكون أكثر تأهّبا وأكثر إعدادا واستعدادا لمواصلة القتال، بينما ستواجه جيشا منكسرا خصوصا وهو سيفقد هدفا من الهدفيْن الرّئيسيين لهذا العدوان وهو استعادة الأسرى لدى المقاومة ويفقد بالتالي سندًا داخليا وعالميّا حتّى من قبل أقرب الدّاعمين للكيان. أمّا بالنسبة للهدف الرئيسي الثاني الذي أعلنه الكيان، القضاء على حركة حماس، فإنّ هذا الهدف يبدو من الأهداف مستحيلة المنال، بل إنّ الجيش الصهيوني بقادته وقاعدته يدرك اليوم أنّها ستخرج من هذه الهدنة أكثر قوّة بعد الانتصارات التكتيكية التي حقّقتها قبل الهدنة وأثناءها، وبالتالي سيؤثّر ذلك على تلك النفسية المنكسرة لهذا الجيش الذي يخوض حربا غير عادلة.
إنّ المقاومة الفلسطينية قد حقّقت إلى حدود هذه المرحلة انتصارا تكتيكيّا/مرحليّا/جزئيّا بفرض شروطها على الهدنة التي أُجبرت القوى الرجعية والإمبرياليّة على إبرامها تحت ذريعة "العوامل الإنسانية" بينما هي في حقيقة الامر دُفعت إلى فرضها تبييضا لوجهها أمام شعوبها وخوفا على مناصبها التي أصبحت مهدّدة في ظلّ حملة شعبيّة عالميّة لم يشهد العالم مثيلا لها. وبقطع النّظر عن فرضيّات مواصلة الحرب أو إدامة الهدنة وتحويلها إلى إنهاء الحرب، فإنّ ما تحقّق في هذه المرحلة يمثّل خطوة الى الامام في مسيرة حرب التحرير الوطني طويلة الأمد التي يخوضها الشعب العربي في فلسطين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق