الأحد، 7 يناير 2024

ورقة من الذاكرة : على الصغير الشريف‎ ‎‏/ أبو الرّائد ‏

 

   غادر أبو الرائد قريته الواقعة قرب ذهيبة في أقصى الجنوب التونسي ليلتحق بالفدائيين الفلسطينيين سنة 1970، كان عليه المرور بليبيا ثم مصر قبل إدراك سوريا ولبنان، كانت ليبيا القذافي في عامها الأوّل بعد الفاتح ومصر في عامها الأخير قبل وفاة عبد الناصر.

   تلقّى أبو الرائد أّل تدريب عسكري على الاسلحة الخفيفة في ليبيا، وفي مصر تلقّى تدريبا على سلاح المدفعية ثم حطّ به الرّحال في سوريا ولبنان فانتمى إلى الجبهة الشعبية القيادة العامة وجبهة التحرير الفلسطينية وحركة فتح الانتفاضة ..

   عندما وصلتُ إلى دمشق سنة 1983 كانت سوريا تعجّ بالفدائيين القادمين من لبنان على إثر حرب 1982 وحصار بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا، سكنتُ على أطراف مخيم اليرموك في مساكن الزاهرة وهناك تعرفت على أبي الرائد، الذي كان مهووسا بحبّ تونس مثل حبه لفلسطين ولكنه لم يكن قادرا على الرجوع إليها فقد غادرها في الخامسة عشرة من عمره ووضع اسمه في قائمة الفدائيين الخطرين على "أمن البلاد " من طرف استخبارات بورقيبة مما يعني وضعه وراء القضبان حال عودته وهو ما حصل معي أثناء رجوعي.

   روى لي ابو الرائد أشياء كثيرة عن معارك بيروت، عن الفاكهانى وقلعة شقيف والمخيمات .... كيف كان الفدائيون يطبعون نشرية المعركة ويوزعونها على الوحدات المقاتلة في الخنادق وكيف أنقذ رفقة مقاتلين آخرين أرشيف "السفير" بأكمله على الميكرو فيلم واتصلوا بطلال سلمان مدير الجريدة ليسلموه إيّــاه، وكيف قاتل الرجال والنساء بشجاعة جيش الاحتلال الصهيوني وسط غدر وخيانة الأنظمة، دون نسيان تعداد بطولات الفدائيين التونسيين التي كانت موضع فخر رفاقهم من فلسطين ولبنان واليمن والسودان وغيرهم، وقد عثرت بعد ذلك بسنوات في كتاب رشاد أبي شاور "آه يا بيروت" على صدى ما قاله بما في ذلك ذكره هو شخصيا.

   كان ابو الرّائد محبا للأدب والفلسفة، وكثيرا ما كنت تجد بين أمتعته كتابا هنا وكتابا هناك، وأنا طالب الفلسفة تعرفت لأوّل مرة على كتاب عبد الله العروى "مفهوم الحرية" بين يديْ أبي الرائد مثله مثل الترجمة العربية لمؤلفات غيفارا الكاملة وستّ دروس عسكرية لماوتسي تونغ. كان هذا الفدائي الذى لم يحصل على الشهادة الابتدائية يوقظني من نومي في الهزيع الأخير من الليل ليقول مغتبطا انه كتب فصلا جديدا من رواية كان يعدها للطبع وان عليّ أن استمع اليه وهو يقرأه واعطيه رأيي، فقد اكتسب مهارة الكتابة الادبية من خلال قراءته لمجلات المنظمات الفلسطينية المختلفة مثل الهدف والحرية والى الامام والقاعدة التي كانت تحتوي على اركان أدبية قارة كما كانت تغذي ملكته الإبداعية ترجمات محمد علي اليوسفي وهو مترجم تونسي قدير لأدب أمريكا اللاتينية وقد عاش لمدة طويلة في بيروت .

   في ذلك الزمن كان الطلبة والفدائيون التونسيون في سوريا ولبنان أشبه بخلية نحل، تجد بينهم موسيقيين وشعراء وقصاصين وصحفيين ومترجمين ومقاتلين ونقابيين وسياسيين ومخبرين أيضا.

   عندما عدت بعد فترة إلى تونس لأقضي فيها بعض الوقت قبل العودة مجدّدا إلى دمشق وردني خبر استشهاد أبي الرائد، فقد أصابته شظية في إحدى المعارك في طرابلس اللبنانية. وقبل يوم من تلك العودة جاءتني أخبار سيئة أخرى، فقد اُستشهد في نفس اليوم رفيق صبايَ عمار العليبي ورفيق الجامعة فاضل ساسي. وهكذا ودّعت في ظرف نصف شهر تقريبا ثلاثة من الرجال الحمر.

   وعندما أعود اليوم بذاكرتي إلى تلك الأيّام، وأقارن ما كان بالهمجية المنفلتة من عقالها الآن لدى حملة السّلاح من "ثوار الناتو" في أقطار عربية مختلفة أشعر بحزن شديد.

   أرى أبا الرائد الآن متنقلا من متراس إلى متراس ومن نفق إلى نفق في غزة والبسمة المعتادة على الثغر.... وصرخة الانتصــــار 

--------------------------------------------------------- بقلم فريد العليبي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق