تجري هذه الأيام عمليات تمشيط متواصلة في جهات مختلفة في تونس من الجنوب إلى الشمال مرورا بالوسط تقوم به وحدات من الجيش و الحرس والشرطة وذلك بعد ورود أخبار عن وجود مجموعات مسلحة في الجبال وقد شملت تلك العمليات مناطق في القصرين وقابس وجندوبة وقفصة وسيدي بوزيد ومنوبة والكاف وسليانة ومدنين.
و في جبل الشعانبي من ولاية القصرين اصطدم التمشيط بألغام انفجر بعضها مما أدّى الى وقوع جرحى، ورغم استعمال وسائل متطورة لكشف الألغام فقد عجزت القوات التابعة لوزارتي الدفاع والداخلية عن رصدها ، مما جعلها تقصف المغارات والكهوف الموجودة في الجبل بالمدافع وهو ما أسفر عن اشتعال النيران في الغابات أما العناصر المسلحة المستهدفة فلم يقتل أو يجرح أو يعتقل منها أحد باستثناء إلقاء القبض على عناصر ثانوية يشتبه في مسؤوليتها عن الدعم اللوجستيكى ووضع اليد على أغطية وكتب و خرائط عسكرية .
وبخلاف ما يجرى في جبل الشعانبي فإن عمليات التمشيط في جهات أخرى تحصل بصمت و لا شئ يشير إلى أنه تم رصد المجموعات المسلحة والاشتباك معها.
و تدفع بعض الجماعات السياسية اليمينية الدينية باتجاه التمويه على ما يجرى في تلك المناطق والتغطية على ضلوع الإرهاب الديني فيه بالادعاء أن الأمر يتعلق بمسرحية نسجت خيوطها الاستخبارات الجزائرية وقوى سياسية تونسية معادية لها بغرض الإساءة وتشويه السمعة، وقد روّجت مزاعم مشابهة في مناسبات سابقة أيضا اتضح بعدها أن الفاعل الحقيقي هو الإرهاب الديني، فقد قتل عقيد وجندي بالجيش التونسي ومسلحان خلال اشتباكات في بلدة الروحية كما قتل مسلحان في مواجهات في بئر علي بن خليفة وأعتقل أشخاص في فريانة بحوزتهم أسلحة وخرائط بالإضافة إلى اغتيال شكرى بلعيد، وفي مختلف هذه الأحداث تبين ضلوع تلك العصابات المورطة أيضا في حرق أضرحة الأولياء ومهاجمة الفنانين في العبدلية ورفع الأعلام السوداء في الجامعات والساحات والبنايات الحكومية ومهاجمة باعة الخمور .
وقد سبق هذه الأحداث ورود أخبار من مصادر أمنية و استخباراتية وإعلامية أجنبية ومحلية تفيد بوجود قواعد للتدريب العسكري على الحدود التونسية الليبية والتونسية الجزائرية وأن بعض من كان فيها انتقل إلى سوريا ومالي والعراق وأفغانستان ليعود بعد ذلك ويشكّــل مجموعات مسلحة متنقلة خاصة على طول الحدود مع الجزائر وأن جبل الشعانبي قد يكون القاعدة الرئيسية التي يتجمع فيها هؤلاء نظرا لتشعب تضاريسه .
و يُــرجّح أن تلك الجماعات تتجه الآن غربا بعد التدخل العسكري الفرنسي في مالي و تضييق الخناق عليها في سوريا حيث يتم توجيهها كمدخل محتمل لفتح الجبهة الجزائرية لاستكمال حلقات إعادة رسم خارطة الوطن العربي بما يتفق ومصـــالح الامبرياليين الأمريكيين والأوربيين فالامبريالية كانت ولا تزال الممسك الحقيقي بورقة الإرهاب الديني وهي تستغلها الآن لإحكام سيطرتها على بلدان كثيرة عبر العالم مثلما هو الحال في أفغانستان والعراق ومالي وتوظّــفها في اتّـــجاه تطويق روسيا والصين.
وتبدو السلطة التي يقودها اليمين الديني في تونس مورطة فيما يحدث فقد غضت الطرف عن تنامي نشاط تلك المجموعات بما ساعدها على الانتشار وجلب السلاح وإقامة المخابئ وتجنيد الأتباع، وقد أرادت النهضة بشكل خاص من وراء ذلك إيجاد حليف يمكن استعماله في الوقت المناسب في صراعها مع أعدائها ولكن تلك الجماعات أفلت قسم كبير منها من براثن النهضة و أصبح أقرب إلى القاعدة وصولا إلى استهداف حركة النهضة نفسها وتكفير بعض رموزها وفي ذات الوقت الارتباط برموز أخرى ضمن الحركة نفسها، وقد جاء الهجوم على السفارة الأمريكية في تونس ليفجر التناقضات الكامنة بين الطرفين .
و فضلا عن هذا يتورط اليمين الليبرالي في استغلال الأحداث محاولا إيجاد موطئ قدم ضمن المؤسستين الأمنية والعسكرية واستعمال ذلك في صراعه مع اليمين الديني بالعزف على وتر الأمـــن الجمهوري المحايد وتشتعل الآن نار المعركة بين هاتين القوتين حول من يستولى على أجهزة الدولة ويوظفها لصالحه فاليمين الديني أضحى يمتلك أجهزته العسكرية صلب مؤسسات الدولة وخارجها أمّــا اليمين الليبرالي فيحاول خلق أجهزة مماثلة باستمالة جانب من المؤسسة الأمنية العسكرية، وبعد أن كان السبسي يهدد بحل نقابات الأمن ويصف المتمرّدين عليه منها بالقردة أصبح الآن مدافعا عنها كما يحاول تشكيل ميليشيات خاصة تقوم بحراسة مقراته وتوفير الحماية لشخصياته تمهيدا لاستعمالها في أغراض أخرى، ويهدّد ذلك كله بإشعال نار حرب حقيقية بين الطرفين يذهب ضحيتها الكادحون قبل غيرهم وهو ما صرح به دون مواربة راشد الغنوشى الذي اتهم السبسي بالتحضير لحرب أهلية، وبعد صوت المدافع وانفجار الألغام في الشعانبي قد لا يطول الوقت قبل حدوث مواجهات في المدن لن تتأخر الآلة العسكرية الأمريكية والأوربية في الدخول المباشر على خطها بتحريك قوات الافريكوم مثلا التي زار قائدها قبل مدة تونس. كما لن تدّخر الدوائر السياسية الأمريكية والأوروبية جهدا في الوقت المناسب لتقوم بترتيب الأوراق من جديد في تونس وتوزيع السلطة على الإخوة الأعداء في النهضة والنداء بالعدل والقسطاس بما يكفل التوازن صلب النظام التونسي ويوفر الاستقرار المنشود لمصالحها.
ورغم أنّ اللّــوحة في مجملها تبدو قاتمة فإنّ بقع ضوء توجد داخلها فالكفــاح الشعبي متواصل والتصميم على تحقيق مطالب الانتفاضة ما زال عاليا ويظل تنظيم صفوف قوى الثّــورة المشكلة الرئيسية في ظل مواصلة الطوائف والملل السياسية تأثيرها الضار على مجمل الحركة الثورية بترويجها للأوهام الإصلاحية وتعطيلها للسيرورة الكفاحية وتشتيت جهود الشعب والحيلولة دون وحدة كفاحه على قاعدة الثّــورة، ويهدّد هذا الوضع في حــال استمراره بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتحويل تونس إلى فريسة تنهشها الكلاب والضباع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق