بقلم فريــد العليبي
كان الرّوس والأوكرانيون على مدار السنين إخوة والحرب بينهما خسارة لكليهما وقد حاربا جنبا إلى جنب النازيّة محقّقين انتصارا تاريخيّا عليها، ولكن نسختها الجديدة الزّاحفة تعبث بمصيرهما فكانت الصّدمة الرّوسية التي يتردّد الآن صداها في العالم قاطبة، وهي التي أعيت جهد تفسيرها، حتّى أن الفيلسوف الفوضوي سلافوي جيجيك قال إنّها اغتصاب، اغتصاب روسيا لأوكرانيا، داعيا المجتمع الدولي إلى إخصاء بوتين، فالإخصاء الحقيقي فقط هو برأيه ما يمنع الاغتصاب. أمّا الولايات المتحدة فشبّهها في علاقتها بأوكرانيا بزعيم عصابة، يوفر الحماية لتجار الحي لقاء الحصول على ضرائب، وهو تشبيه أقلّ حدّة فلا أثر للجنس فيه فالأمر يتعلق بالمال لا بالشرف .
يحدث في السياسة عندما تتطور التناقضات بين الدّول أن تعجز الكلمات على إخفاء الواقع الحزين، فتخلي السّياسة السّاحة أمام الحرب، وصولا في زمننا إلى وضع الترسانة النووية الاستراتيجية في حالة التأهب القصوى، ويكفي استفزاز صغير للضغط على الزر الكبير، فقد هدد بوتين الذين يحاولون التدخل في مجرى الحرب الحالية بأن ردّ روسيا سيكون فورياً وسيؤدي إلى عواقب لم يسبق لهم أن رأوها وسمعوا بها من قبل.
وبالعودة إلى الوقائع التي سبقت الصدمة الروسية، كانت أمريكا تدقّ ناقوس الخطر على مدى أيام، وحتى الرئيس الأوكراني لم يصدّق ذلك فحذّر من الهلع الذي يلحق الضرر باقتصاد بلاده، التي غاب عنها لبعض الوقت للمشاركة في مهمة خارجية واعتقد محللون، بما في ذلك تونسيون، أن الحرب لن تقع وأنّ روسيا في أتعس حالة ستقضم بعض الأراضي الأوكرانية، دفاعا عن الجمهوريتين الشعبيتين، وأنّ بوتين لن ينجرّ إلى مصيدة نصبها له الأمريكيون، ولكن روسيا التي أدركت أن صواريخ الناتو على أبوابها، بما يمكنها من الوصول الى موسكو خلال دقائق معدودة، كان لها رأي آخر، فبوتين الذي وصل صبره الاستراتيجي إلى نهايته كان يعلم أنّه إذا كان القتال أمراً مــحتوما، فعليك المبادرة بالضربة الأولى.
وقد مثل ردّ الفعل الأوروبي الأمريكي بدوره صدمة، فحتّى سويسرا وفنلندا والسويد دخلت غمار المواجهة، وتمّ طرد طلاّب وفنانين ورياضيين روس وحظر قنوات تلفزيّة ومنع تصدير واستيراد بضائع وغلق بنوك، وقال بوتين أن تلك العقوبات كانت ستقع في كل الأحوال. وبدت المواجهة أشبه بما يحدث في مملكة الحيوان، حيث تستعمل القرون والأنياب والمخالب، ولا يهمّ ماذا تكون التكلفة فالأهم هو النتيجة.
وفي المجال العربي يجد كثيرون أنفسهم في تلك الحرب إلى جانب روسيا، نكاية في أمريكا، وفي الذاكرة فلسطين والعراق وليبيا وسوريا، التي أنقذتها صواريخ بوتين، معتبرين أنها تخوض حربا دفاعية، فقد هدّدوا أسوارها فما كان منها إلّا أن أخرجت سيفها في وجههم. وازداد ذلك الحنق قوّة وهم يرون النفاق في التعامل مع اللاجئين الفارين من أوكرانيا، وقد تحدث طالب تونسي عن ضربه حتى لم يعد يقوى على المشي، وهو يمثل حالة تختصر حالات كثيرة أخرى من اللاجئين العرب والأفارقة.
وعلى الصعيد الجيواستراتيجي توفّر الصدمة الروسية إمكانية لإعادة توزيع القوة والنفوذ في العالم فالحرب لا تأتي دوما بأشرار وإنّما بأخيار أيضا، وهو ما يتوقف على الأهداف التي تحققها. ومن المرجّح أنّ الصين سترى في ذلك نضجا للتفاحة التايوانية ولن تتردد في قطفها، وقد تحقّق روسيا حلمها باستعادة إمبراطورتيها المفقودة، أمّا العرب وغيرهم من الأمم المضطهَدة فقد يسمح لهم الوضع الجديد بتدارك ما فاتهم. وستجد تونس نفسها رغم المتاعب الاقتصادية الظرفية وقد خفت الضغوط المسلطة عليها وأضحت أكثر قدرة على المناورة بين الأقطاب المتصارعة. وإذا كانت اليوم تصوّت في الأمم المتحدة إلى جانب أوكرانيا فلأنّ يد صندوق النقد الدولي مشرّعة عليها، وهي التي قرأت جيدا الحسرة الأمريكية على زمن تونسي فات، عندما كتب السفير الأمريكي السابق فيها غوردن غراي: "قبل عشر سنوات من هذا الشهر، وقفت حكومة تونس في الجانب الصحيح من التاريخ من خلال استضافة مؤتمر أصدقاء سوريا الأوّل. لماذا لم تظهر الحكومة التونسية اليوم نفس الشجاعة الأخلاقية وتدين غزو روسيا لأوكرانيا ؟" فكان له ما طلب في بلد أراد له حكامه السابقون من الإسلاميين والليبراليين أن يكون حليفا استراتيجيا للناتو وإن كان من خارجه .
جريدة الانوار، 4 مارس 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق