عالم جديد بصدد الولادة الآن تحت أعيننا والمخاض صعب ودامٍ.. جديد يولد وقديم ينازع الموت بكل قوّته ليفتح المشهد على نهايات مختلفة، لا أحد قادر على تحديد طبيعتها ورسم ملامحها بكل دقة، حيث الصراع الدائر حاليا ليس بالهيّن ولا بالبسيط. صراع وصل فيه التناقض بين
الإمبرياليات إلى مداه المتفجّر لا يمكن حسمه إلاّ عبر حرب واسعة ومدمّرة ولنا في الحرب الإمبريالية الأولى والثانية أحسن مثال. إلّا أّن هذه المرة ستكون النتائج أخطر وأعنف، وذلك للمدى البعيد الذي وصلت إليه الصناعة العسكرية في قدراتها التدميرية ولعلّ أبرزها السلاح النووي الذي يمكن أن يقود العالم إلى نهايته أصلا، وهذا احتمال غير مستبعد فالسلاح النووي على منصاته في انتظار كبسة زر واحدة. والحرب الإعلامية والتصريحات المتبادلة بين طرفي الصراع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والإجراءات العملية المتّخذة في ذات الغرض تؤكد ذلك المسعى وتعزز إمكانية حضوره، ذلك هو منطق الصراع، خاصة إذا تعلق بالمصالح الاستراتيجية الكبرى للقوى الإمبريالية وهذه هي حقيقة الصراع الدائر حاليا في أوكرانيا والذي مثل نقطة انطلاق مشروع النظام العالمي الجديد الذي يرمي إلى تجاوز حالة القطبية الواحدة والهيمنة المفردة التي تمارسها الإمبريالية الأمريكية على العالم منذ تسعينيات القرن المنصرم وبالتحديد إثر سقوط الاتحاد السوفياتي.
واليوم وبعد أن استطاعت روسيا الاتحادية، خليفة الاتحاد السوفياتي، تحت قيادة فلاديمير بوتين تجاوز الأزمة الشاملة التي عصفت بها وإعادة بناء نفسها على قاعدة أكثر صلابة ومتانة أهّلتها لأن تقف بكل عنفوان وندية أمام الغرب الامبريالي رافضة هيمنته الاستعمارية وكاسرة لسلاسل الاستعباد والرضوخ التي حاول تكبيلها بها. وتعلن روسيا الاتحادية صراحة، وعلى لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، وفي مناسبات عديدة، أنّ زمن القطبية الواحدة قد ولّى ومضى وأنّ الأوان آن لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. وهذا ما يفسر حالة الهلع الشديد الذي أصاب الغرب اليانكي ممثلا في الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وانخراطه اللامشروط في الحرب وعلى مستويات مختلفة العسكرية والاقتصادية والإعلامية في محاولة يائسة لكسر ظهر الدب الذي استيقظ من سباته الطويل والتفرغ في مرحلة ثانية لدفن رأس التنين الذي إن أتمّ الوقوف على قدميه سوف يبتلعهم جميعا. وعليه كان القرار بأن لا تراجع في هذه الحرب ولا تفاوض ولا أيّ تسويات سلمية كلّف ذلك ما كلّفهم. لكن رغم ذلك فقد أجاد الطرف المقابل، أي روسيا والصين، إدارة هذا الصراع واستثمار كل ما يملكانه من مصادر القوة إلى عناصر غلبة وثبات ولعل أبرزها ما يتمتعان به من عقل استراتيجي هائل أثبت في كل مرة أنّه الأقدر على قلب الموازين لصالحه وذلك بفتح ثقوب واسعة وعميقة في الجدران التي شُيّدت لمحاصرته حتى تصل رياحه إلى مناطق قصية عنه في العالم.
وها نحن نرى ونلمس ما تأثير رياح الشرق هذه على القارة الأفريقية، إذ بات من الواضح أن ما حصل في مالي وبوركينا فاسو وكذلك ما يحصل الآن في النيجر هو من تأثيرات تلك الرياح القادمة من الشرق والتي كانت من نتائجها تحطيم، أو على الأقل، خلخلة قواعد الاستعمار الامبريالي الغربي وبالتحديد الإمبريالية الفرنسية التي تم طردها ودحرها من تلك البلدان الثلاثة والقائمة ربما مازالت تطول. فالشعوب الافريقية التي عانت طويلا ومازالت من هول الاستعمار والاضطهاد الاستعماري، الذي فقّرها وجوّعها وداس كرامتها إلى حدود لا إنسانية قصوى، بدأت كلها تتطلع للحرية والانعتاق ووعت أن لا حياة كريمة لها إلاّ بالانعتاق من ربقة المحتل. ولعلّ هذا الوعي الذي ما زال عفويا قادر على أن يتطور ويتجذّر ويتحوّل إلى وعي ثوري حقيقي قادر على إنجاز المهام التاريخية الكبرى متى امتلك أدوات تحققه السحرية على حد تعبير ماوتسي تونغ خاصة وأنّ العامل الموضوعي مهيأ لكل مبادرة ثورية حقيقية. فهل لذات ثورية أن تُخلق بفعل هذه الحركة القوية والعنيفة التي يشهدها الواقع في بعض من أجزاء هذه القارة المنهكة توكل إليها مهمة المرور من الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية إلى ثورة حقيقية تحسم حالة الصراع في بعديه الوطني والاجتماعي لصالح الشعوب الافريقية الكادحة والمضطهدة ؟ إذ لا وقت مناسب لذلك أكثر من الآن، فالصراع الامبريالي المتفجر الآن والدائر معركته في أوكرانيا يفتح الآفاق واسعة لسائر المضطهَدين في العالم داخل المستعمرات وأشباهها لان يؤسسوا لأنفسهم واقعا آخر يكونون فيه أحرارا وأسيادا على ذواتهم وعلى أوطانهم وثرواتهم. ولعلّ العرب هنا هم المعنيون أكثر من غيرهم بهذا القرار خاصة وأن شظايا الانفجارات قد بدأت تصل أراضيهم والسودان أول المصابين بها.
بقلم عارف الأحمر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق