تتعرّض الانتفاضة التونسيّة إلى هجمات مضادّة
موجّهة ضد جماهير الكادحين المطالبين بحقّهم في الشّغل وفي الأرض والحريّة. وتلجأ
الدّولة إلى استعمال مختلف أجهزتها في مواجهة مختلف الاحتجاجات وفي الردّ على
المطالب التي ظلّت مرفوعة منذ اندلاع انتفاضة 17 ديسمبر، وهذه الأجهزة التي تواجه
بها الدّولة الاحتجاجات الاجتماعيّة لا تتمثّل في برامج تنمويّة اقتصاديّة ولا في
توفير حلول للأوضاع الاجتماعيّة للمحتجّين كما تمّ وعد المنتخبين به قبل 23 أكتوبر
وإنّما تنحصر في استعمال الجهازين الأمني والقضائي، كما يتمّ اللّجوء إلى جهاز غير رسمي ونعني
"رابطات حماية الثّورة" التي تلقى دعما وحماية من قبل حزبي النهضة و
المؤتمر.
وبعد
المعالجات الأمنيّة القمعيّة للاحتجاجات الاجتماعيّة التي أسفرت في كثير من
المناسبات عن سقوط ضحايا في صفوف المحتجّين
، نشطت الآلة القضائيّة في تتبّع الغاضبين بإحالتهم على المحاكم ذنبهم
الوحيد في ذلك أنّهم إمّا شاركوا في المظاهرات التي امتدّت بين 17 ديسمبر 2010 و14
جانفي 2011 أو في الاحتجاجات المتفرّقة التي شهدتها عديد المناطق ضدّ الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة القاسية رافعين نفس
قائمة المطالب التي انتفض من أجلها الشّعب: الشّغل، الأرض، الحريّة، الكرامة،
التّنمية...
وقد حمل شهر
جوان من هذه السّنة بين طياته عديد المحاكمات التي طالت عددا غير قليل من أبناء
الشّعب في جهات متفرّقة من البلاد، وتعود جذور بعض المحاكمات إلى احتجاجات حدثت
قبل حوالي سنة فيما تعود محاكمات أخرى إلى تحرّكات غير بعيدة في الزّمن. ففي منطقة
الدّخيلة من ولاية منّوبة تتمّ محاكمة 12 شابّا من متساكني المنطقة بسبب مشاركتهم
في احتجاجات كانت قد انطلقت في شهر أوت 2012 طالب خلالها الكادحون بحقهم في الشغل
والتنمية بعد أن قام أحد كبار
الملاّكين العقاريّين بطرد 500 عامل فلاحيّ من ضيعته وقد نظّم المحتجّون إضرابا
عامّا يوم 27 سبتمبر 2012 وتلاه تنظيم اعتصام مفتوح جابهته السّلطة بالقمع فتمّت
مداهمة المنازل وإيقاف مجموعة من الشبّان وتوجيه تهم جنائيّة إلى عدد منهم. وإلى
اليوم لا يزال ثلاثة من هؤلاء الشبان في حالة إيقاف فيما تحصّن ثمانية بالفرار
وآخر في حالة سراح، وسيتمّ يوم 12 جويلية 2013 محاكمتهم بعد أن تمّ تغيير التّهم
من جناحيّة إلى جنائيّة.
وهكذا، فإنّ
السّلطة القائمة لم تجد غير طريق القضاء والمحاكمة الجماعيّة لتواجه به مطالب
الكادحين الذين لا شغل لهم أوالذين أُطردوا من شغلهم وهي بذلك تقف إلى جانب قلّة من كبار الملاّكين الإقطاعيين التى تسيطر
على أراضي واسعة وتتحكّم في ثرواتها بينما يُحرم الفلاّحون الفقراء حتّى من
الاشتغال لدى هؤلاء ذلك أنّ الـ 500 شخصا الذين أطردوا من شغلهم كانوا يعملون في
ضيعة تمسح أكثر من 2300 هكتار ومالكها له علاقات وطيدة مع أصهار الرئيس
السابق بن علي.
في نفس
الشّهر، وبسبب المطالبة بالحقّ في التشغيل، تمّت إحالة ستّ نساء من منطقة منزل
بوزيّان بولاية سيدي بوزيد على التّحقيق بتهمة مشاركتهنّ في اعتصام دام أكثر من
أربعين يوما كان قد انطلق داخل بهو معتمديّة المنطقة قبل أن يقمن بنقله إلى مستوى
السكّة الحديديّة التي تمرّ بالمدينة وقد رفعت النسوة المعتصمات شعار "اعتصام
المرأة: كرامتي في شغلي". بعد هذه المدّة من الاعتصام تلقّت النساء الستّة
استدعاءات من قبل فرقة الأبحاث العدلية للحرس بسيدي بوزيد تحت ذريعة شكاية تقدّمت
بها شركة السكك الحديديّة.
وما يثير
الاستغراب في هذه القضيّة المرتبطة بالاحتجاجات التي نفّذتها النّسوة العاطلات عن
العمل بالجهة، أنّ لا السّلطات المحليّة ولا السّلطات الجهويّة المسؤولة أعارت
اهتماما للاعتصام لمّا كان ببهو المعتمديّة الذي استمرّ مدّة طويلة وقد رفعت
النساء خلال هذه الأيّام شعار "لا تكسير ولا تسكير" عن وعي وقصد في
رسالة واضحة الدّلالات إلى السّلطات المسؤولة وإلى الرّأي العام. ولكن عندما مللن
ازدراء المسؤولين لتحرّكهنّ انتقلن إلى سكّة الحديد وعندها فقط تحرّك المسؤولون
بكلّ ثقلهم وبدل أن يبحثوا عن حلّ جذريّ لمشكلهنّ أعدّوا لهنّ ملفّا قضائيّا
متستّرين بشكاية من شركة النّقل الحديدي.
في منطقة
المظيلة من ولاية قفصة، ويوم 20 جوان 2013، أصدرت المحكمة الابتدائية بقفصة أحكاما
بالسجن بثلاثة أشهر مع تأجيل التنفيذ في حقّ خمسة معطّلين عن العمل تمّ إيقافهم
يوم 11 جوان و تهمتهم الوحيدة أنّهم شاركوا في تحرّك احتجاجي تمثّل في اعتصام نفذّه المعطّلون عن العمل أمام
مقرّ معتمديّة المنطقة للمطالبة بحقّهم في التشغيل. هؤلاء المعطّلين لم يقطعوا
طريقا ولم يعطّلوا مرور القطارات ولم يحتجزوا لا حافلة ولا أجهزة ولم يضرّوا
بالأملاك الخاصّة ولا بالأملاك العموميّة، بل اختاروا التعبير عن مطلبهم الاجتماعي
المشترك أمام مقرّ المسؤول الجهوي لإسماع صوتهم بحثا عن حلّ لأزمتهم المزمنة فما
كان من السّلطات المسؤولة إلاّ التعجيل بإحالتهم على القضاء في محاولة منها للقضاء
على إرادتهم في المطالبة بحقوقهم ليس فقط في الشّغل وإنّما أيضا في التّعبير وفي
التظاهر والاحتجاج. وبهذه الطّريقة في مواجهة المشاكل الاجتماعيّة للكادحين، فإنّ
السّلطة تساهم بشكل مباشر في دفع هؤلاء الشباب وغيرهم، من خلال بثّ اليأس في
أوساطهم، إلى اللّجوء إلى حلول أخرى كالهجرة غير الشّرعيّة أو الانتحار أو سلوك
طريق الجريمة.
في جهة
جبنيانة من ولاية صفاقس، أحيل تسعة شبّان من قرية أولاد حمد خلال شهر جوان المنقضي
على أنظار القضاء أحدهم مازال في حالة فرار. هؤلاء الشّباب بعضهم طلبة والآخرون
عاطلون عن العمل، لم يطالبوا بالشّغل ولا بالأرض وإنّما شاركوا إلى جانب كلّ كادحي
القرية في تحرّكات احتجاجيّة منذ أشهر طالبوا خلالها بتعبيد طريق لا تتجاوز مسافته
7 كم بعد أن وعدت السلطات بالشّروع في عمليّة تعبيد الطّريق في منتصف شهر أكتوبر
2012. وقد وجّهت إلى الشبّان التسعة تهمة "تكوين وفاق للاستيلاء على الأملاك
العموميّة" ذلك أنّه خلال اعتصام أهالي المنطقة تمّ احتجاز حافلة تابعة
للشركة الجهويّة للنّقل وآلة تابعة لشركة الكهرباء والغاز.
ورغم أنّ
المطلب الذي تحرّك من أجله كادحو قرية أولاد حمد مطلب تنمويّ بسيط كانت السلطات
الجهويّة والمحليّة قد وافقت على الشروع في تحقيقه سابقا، فإنّ التهم الموجّهة إلى
الشبّان تدلّ على أنّ لا خيار لدى السّلطة الحاكمة في مواجهة مطالب الكادحين
المزمنة سوى اللّجوء إلى العقاب الجماعي باستعمال أدواتها الأمنيّة والقضائيّة.
وهذه
السياسات المعتمدة إن أكّدت العجز التام للحكومة عن إيجاد حلول للمطالب الاجتماعيّة
المتفاقمة من جهة أولى، فإنّها تؤكّد من جهة ثانية أنّ هذه السياسة تهدف إلى بثّ
الرّعب واليأس في صفوف الطّبقات الكادحة من أجل جرّها إلى الخنوع والاستكانة
والرّضا بالأمر الواقع. غير أنّ هذه السياسة لن تثني الكادحين عن مواصلة طريق
النّضال من أجل التحرر وامتلاك الثّروات.
----
طريق الثورة، العدد 11، جويلية 2013