تُـــواصل الأوضـــاع الاقتصاديّـــة والاجتماعية والسياسية والأمنية في تــونس تدهورها. فعلى صعيد الاقتصاد هناك ارتفاع في نسبة التضخم و تفاقم في عجز الميزان التجاري وتراجع في مخزون العملة الصعبة وازدياد للدّيْن الخارجي، وقد تكررت خلال الأشهر القليلة الماضية عمليات إعادة تصنيف الاقتصاد التونسي من قبل المؤسسات والهيئات المالية المحلية والدولية لكي تبلغ مراتب متدنية وارتفعت وتيرة الأصوات المنبهة إلى إفلاس وشيك.
واجتماعيا تفاقمت معاناة الكادحين فالأسعار واصلت صعودها والبطالة ازدادت معدلاتها و انتشرت الأمراض الوبائية، والتنمية الجهوية ظلت مجرد شعار انتخابي خال من أي محتوى. وعلى المستوى السياسي فإن أغلب التحليلات بما فيها تلك القريبة من السلطة اليمينية الدينية الحاكمة تشبه ما آل إليه الوضع بعنق الزجاجة فالأزمة السياسية لم تجد حتى الآن حلاّ لها. أما أمنيّا فلا يكاد يوم يمضى دون الإعلان عن اكتشاف مخزن للسلاح هنا أو هناك وقد جاءت جريمة قتل شكري بلعيد رميا بالرصاص لكي تزيد الطين بلّة، فمعها فتحت صفحة الاغتيالات السياسية و هناك قوى تستعد فعليا لحرب رجعية طاحنة .
وفي خضم هذا الوضع تبدو الرجعية الدينية متمسكة بخطتها القاضية بأسلمة المجتمع والدولة دون أدنى اهتمام بالوعود التي قطعتها على نفسها بما في ذلك كتابة الدستور وتحديد موعد الانتخابات القادمة وتحوير الحكومة تارة و تشكيل حكومة جديدة تارة أخرى وحلّ معضلات اللجنة العليا للانتخابات و لجنة الإعلام واستقلال القضاء وما إلى ذلك من الأوهام التي روّجتها ولا تزال فالمهم بالنسبة إليها هو إغراق الشعب في مسلسل الانتظار بينما تعمل واقعيا على تحصين المواقع التي أصبحت بين يديها من خلال تسمية عناصر حزبية تابعة لها في مفاصلها الأساسية، بما في ذلك تسمية المعتمدين والولاة والسيطرة على المجالس البلدية والقروية و قد اعتبر راشد الغنوشي حركته السياسية العمود الفقري للبلاد التونسية و هدد في مناسبات مختلفة بأن إبعادها عن الحكم تحت أي ذريعة يعنى انتشار الفوضى بينما اعتبر أحد الوزراء مجلس شورى النهضة أعلى سلطة في البلاد واليوم يهتف أتباع الحركة بشعار يذكّر بما كان يردده الفاشيون في أوروبا خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي: الشعب يريد النهضة من حديد .
ورغم كل الهراء عن التوافق فإن الحركة تعلم جيدا أنها في الأخير سوف تحدد وحدها محتويات المجلة الانتخابية وطريقة الاقتراع وطبيعة النظام السياسي بفعل سيطرتها على المجلس التأسيسي لذلك تُعّد نفسها للبقاء طويلا في الحكم و عندما تواجه بعض العراقيل فإنها تعمد إلى توتير الأوضاع الأمنية بتحريك أجنحتها العسكرية لإشاعة جو من الخوف والرعب تتمكن معه من بسط نفوذها.
و فضلا عن هذا فإنها تعمد إلى المناورة السياسية فتوعز إلى رئيس الحكومة قبل استقالته بالقبول بمطلب حكومة التكنوقراط غداة استشهاد بلعيد و يعبّر الغنوشي في تصريح لرويتر عن إمكانية مغادرة حركة النهضة للحكم و بعد مرور العاصفة يتم التراجع عن ذلك كله فقد كان الهدف من ورائه امتصاص غضب الشعب .
و قد تبين أن استقالة الحبالى لم تكن غير فرقعة إعلامية هدفها إعادة الاعتبار للنهضة بإظهار أحد رجالاتها في موقع المسؤول والزعيم الوطني الملتزم بالصالح العام تمهيدا لاستعماله كورقة انتخابية للرئاسيات القادمة وهو ما فضحته زيارته إلى سوق بئر القصعة حيث أُعد له استقبال نهضاوي طالبه بالترشح للانتخابات الرئاسية بما يذكر بزيارات بن على المفاجئة وبعدها بأيام قال الغنوشي أن الجبالي يستحق كرسي الرئاسة.
إنّ مختلف هذه الوقائع تبين ما عليه الوضع في تونس من تأزم كما تؤكد أن من لهثوا وراء المجلس التأسيسي ودخلوا الانتخابات الفارطة دون توفر أدنى الضمانات لاعتقادهم أنهم على أبواب جني ثمار ما زرعوه في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة بما في ذلك تقلدهم مناصب سياسية عليا و كانوا مستعدين لمشاركة النهضة الحكم لم يقبضوا غير الريح، و هم يكررون الآن نفس الخطأ بمناداتهم بمؤتمر الإنقاذ وحكومة أزمة وبقائهم في المجلس التأسيسي المنتهية ولايته قانونيا منذ 23 أكتوبر 2012 وتسليمهم بالشرعية المغشوشة فهم لا يفعلون بذلك غير ترويج أوهام التحول الديمقراطي وحكم الشعب لنفسه في الظرفية الحالية عبر صناديق الاقتراع و المباراة الديمقراطية مع النهضة متناسين أنه لا ديمقراطية دون تحقيق شعار الانتفاضة : الشعب يريد إسقاط النظام. ومن هنا فإن طريق الثورة هو وحده الذي بإمكانه أن يؤدى إلى حل المعضلات التي يعانيها الشعب بما يعنيه ذلك من مواصلة المقاومة حتى تحقيق الشروط التي تجعل الديمقراطية السياسية ممكنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق