الأحد، 28 فبراير 2021

ورقة من التّاريخ: مجزرة بنزرت بين ارتجال بورقيبة وتعنّت فرنسا

 

* بقلم فاروق الصيّاحي

   أعلن بورقيبة منذ 1956 تمسّكه بجلاء الجيوش الفرنسيّة عن التّراب التّونسي، ولم تكن تلك التصريحات مستبعدة باعتبار واقع الصّراع الدّاخلي الذي خلّفته اتّفاقيات 3 جوان 1955 والذي تحوّل إلى حرب أهليّة. غير أنّ بورقيبة كان يرى أنّ هذا الجلاء سيكون تدريجيّا وقد ربط بورقيبة ذلك بتطوّر مراحل تكوين جيش تونسي. فمثلما استعمل سابقا ورقة المعارضة اليوسفيّة لدفع فرنسا إلى إمضاء بروتوكول 20 مارس، استغلّ بورقيبة واقع الحرب الأهليّة للمطالبة بتحقيق الجلاء العسكري.

   وطبعا، لاقت هذه التصريحات صدى في صفوف الشّعب التّائق إلى التحرّر من نير الاستعمار، وهو الذي لن يهنأ له بال ولن يصدّق قصّة الاستقلال إلاّ إذا تأكّد من خلوّ كلّ شبر من أرضه من عساكر فرنسا الاستعماريّة، لذلك لن يتوانى المقاومون، الذين أجبرهم حزب الدّستور، في إطار تفاهماته مع فرنسا في أواخر 1954، على تسليم بنادقهم، وأبنائهم على تلبية نداء المقاومة من جديد فرهنوا أجسامهم وأرواحهم فداءً للوطن في معارك السدود في الجنوب ثمّ في معركة بنزرت باعتبارها مواصلة لحرب التّحرير التي أعلنها اسلافهم ضدّ أولى فرق الجيش الفرنسي التي دخلت تراب البلاد في 1881 والتي لا تنتهي إلّا بطرد آخر جنديّ فرنسي من هذا التّراب.

أمام تصريحات بورقيبة هذه، تعنّتت الحكومة الفرنسيّة وظلّت مصرّة على المحافظة على قواعدها في الجنوب وفي بنزرت. فقد اشترط وزير الدّفاع الفرنسي يوم 10 ديسمبر 1956 وفي علاقة بالمفاوضات المتعلّقة بمسألة تشكيل جيش تونسي أن تضمن الحكومة التونسية احترام حريّة تنقّل وحركة القوّات الفرنسية بالتراب التونسي. أمّا بورقيبة فقد بدا خلال المفاوضات مع الجانب الفرنسي غير آبه لهذا الشّرط وغيره من خلال المطالبة بتجميع القوات الفرنسية وانطوائها في القاعدة العسكريّة ببنزرت. وفي إطار تطبيقه لـ"استراتيجيّة المراحل"، اعتبر بورقيبة معركة السّدود مرحلة أولى من الجلاء العسكري التّام. لذلك أعلن في خطابه يوم 16 أكتوبر 1958 عن إرادته في تحقيق الجلاء النّهائيّ.

  هذه تصريحات بورقيبة، وهذه استراتيجيّته ومراحلها كما عبّر عنها وكما مارس المرحلة الأولى منها والمتمثّلة في معارك السّدود. فماذا كانت استراتيجيّته بخصوص قاعدة الجيش الفرنسي في بنزرت ؟ وأيّ تكتيكات خطّط لها في إدارته للمعركة بشكليها السياسي/الديبلوماسي والعسكري لتحقيق تلك الاستراتيجيا ؟

   لقد باشر بورقيبة المعركة الدّيبلوماسيّة مع الجانب الفرنسي ملتجئا في نفس الوقت إلى سياسة الضّغط على الطّرف المقابل في محاولة منه لجرّه إلى اتّخاذ قرار الانسحاب سلميّا. لكن أمام رفض الجنرال دي غول مغادرة قوّاته لقاعدة بنزرت، اتّجه بورقيبة إلى تحريك الشارع التونسي منذ بداية شهر جويلية 1961، فتظاهر سكّان بنزرت يوم 6 جويلية وبدأ التّوافد على مدينة بنزرت بالآلاف من كلّ جهات البلاد وشرع المتطوّعون في حفر الخنادق. ومع انسداد أفق الحلّ السّلمي، أعلن بورقيبة في خطابه في مجلس الأمّة يوم 17 جويلية 1961 اضطراره إلى خوض المعركة فعليّا فقال: "سنخوض معركة الجلاء ولن نتراجع إلاّ إذا تمّ الجلاء أو حدّدت مواقيته". وبعد أن حصلت المعركة وحصدت الآلة العسكريّة الفرنسيّة الآلاف من التونسيين العزّل، قبل بورقيبة بوقف القتال ثمّ عاد مجدّدا إلى سياسة التّفاوض لتحديد 15 أكتوبر 1963 موعدا للجلاء النّهائيّ.

لم يكن بورقيبة يعتقد أن تتطوّر الأزمة مع الجانب الفرنسي إلى حدود بلوغ الحلّ العسكري، فقد أراد فقط الضّغط شعبيّا على فرنسا لتقبل بالحلّ السّلمي معتقدا أنّ فرنسا سترضخ لطلبه ولن تقدم على ارتكاب مجزرة في حقّ متظاهرين عزّل. ويتنزّل اعتقاد بورقيبة هذا تكريسا لسياسة المراحل التي دأب على نهجها منذ ثلاثينات القرن العشرين في إطار تعامله مع الجانب الفرنسي وتبرير نهجه السّلمي، مثلما استغلّ حركة "الفلاقة" بين 1952 و1954 لفتح باب التفاوض مع الفرنسيين. ومن هذا المنطلق لم يستعد للمواجهة العسكريّة بل إنّه أبعد قادة الجيش عن ساحة المعركة وحشد فيها العزّل من السّلاح وفاقدي الخبرة العسكريّة دافعا بهم إلى مواجهة غير متكافئة، فلم تكن لديه استراتيجيّة عسكريّة وربّما لم يكن هذا الخيار يمثّل لديه نسبة 1%.

   غير أنّ اعتقاد بورقيبة لم يكن صائبا ولم ينجح تكتيكه هذه المرّة في الضّغط على خصمه، لذلك كانت الخسائر من الجانب التّونسي مفزعة، وهو ما أثار ردود فعل في الوسط السياسي وفي المؤسّسة العسكريّة ذاتها ضدّ هذا النّهج. وقد كان لتلك المجزرة التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية بترسانتها العسكرية البرية والبحرية والجويّة والتي يتحمّل بورقيبة المسؤولية الكبرى في حصولها، كان لها تداعيات خطيرة على حكم بورقيبة وسياسته في المستقبل كانت أخطرها محاولة الانقلاب التي شارك في الاعداد لها عدد من العساكر ومن قدامى المقاومين الغاصبين.

توقّفت المعركة العسكريّة غير المتكافئة ولم يتم تحقيق الجلاء ولا تمّ تحديد مواقيته. وسارع بورقيبة إلى العودة إلى النّهج الدّيبلوماسي من جديد. وكما عوّل على كسب تأييد الولايات المتّحدة الأمريكيّة قبل حدوث المجزرة، ها هو يسرع إليها - صديقة فرنسا- من جديد، ويواصل تعلّقه بالمعسكر الرأسمالي الامبريالي في الوقت الذي سعى فيه العالم الغربي وفي مقدّمته الولايات المتّحدة الأمريكيّة إلى عرقلة اجتماعات الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة للتنديد بالمجزرة التي ارتكبها الجيش الفرنسي في بنزرت ضدّ التونسيين. وكان بورقيبة متلهّفا للتفاوض مع فرنسا، فبمجرّد إعطائه الضوء الأخضر، أعلن يوم 8 سبتمبر 1961عن بدء الاتّصالات بين تونس وفرنسا للتباحث حول قضيّة بنزرت من جديد والحال أنّ يد فرنسا ما زالت ملطّخة بدماء التونسيين. وبالمقابل ضرب عرض الحائط المساندة التي كسبتها قضية بنزرت من قبل الدّول الاشتراكيّة والكتلة الأفرو-آسيويّة والتي جعلتها تحقّق تأييدا عالميّا.

طريق الثورة، العدد 61 

هناك تعليقان (2):

  1. هناك رأي او تصور يقرب الى اللغط يرويه الفلاقة الافاقيين من ابناء الدواخل انّ بورقيبة أراد ان يتخلّص منهم عبر الزج بهم في معركة انتحارية غير متكافئة .لا ادري ان كان هناك احصاء للمشاركين وللشهداء والجرحى في هذه المعركة حتى نتمكن من تنسيب هذا التصوّر لكن ما ذهبت اليه سيد فاروق مهم جدا حيث ربطت بين سياسة بورقيبة او استراتيجيّة بورقيبة و اتخاذ بورقيبة قرار الحرب ربطا جميلا ونزلته في اطاره التاريخي وهذا مهم جدا .

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا على الاهتمام والتّفاعل. في ما يخصّ ما يشاع حول إرادة بورقيبة التخلّص من الفلاقة المغضوب عنهم، هذا يتطلّب تنسيباوأعتقد أنّه حكم تمّ استنتاجه بعد المعركة، ثمّ إنّ بورقيبة استعمل وسائل أخرى للتخلّص ممّن أراد مراوحا بين الترغيب والترهيب. امّا بخصوص الإحصائيات فلا توجد أعداد دقيقة ولكن الأعداد كانت ضخمة سواءً بالنسبة للمشاركين او الضحايا، فبخصوص عدد القتلى هناك جهات اوردت رقما بـ6000 شهيد، ولعلّ هذا عائد إلى أنّ قوات الاحتلال منعت الصّحفيين وحتى الفرنسيين منهم من الاقتراب من ساحة المجزرة مستعملة عراقيل عديدة للتستر على جرائمها، ولكن بعض المشاهد التي تمّ تسريبها كانت توحي بفظاعة الجريمة المرتكبة.

      حذف