الجمعة، 18 ديسمبر 2020

بعد عشرين شهرا من الانتفاض.. لا شغل، لا حريّة، لا كرامة وطنيّة

  شعار الشغل والحُريّة والكرامة الوطنية هو أحد الشعارات الأساسية التي رفعتها الجماهير الكادحة منذ الأيّام الأولى لانتفاضة 17 ديسمبر، وهو شعار يعود إلى انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، وما زال هذا الشعار يتردّد في التظاهرات والاحتجاجات الشعبيّة المتواصلة إلى اليوم. واستمرار ترديده فيه دلالة على عدم تحقّقه مثله مثل بقية الشعارات التي أبدعتها الجماهير والمعبّرة عن قضايا هذا الشعب وعن تطلّعاته ولعلّ أبرزها شعار: الشعب يريد إسقاط النظام.

   وتَواصلُ رفع شعار الشغل والحرية والكرامة الوطنيّة يبقى ملازما لتواصل الحراك الاجتماعي سواءً اتّخذ هذا الحراكُ أشكالا تصعيديه في بعض الأطوار أو خفت في أطوار أخرى. فالجماهير التي انتفضت في ردّ  على أوضاعها الاجتماعيّة القاسية قدّمت التضحيات، ولا زالت تقدّمها، بين مئات الشّهداء والجرحى وآلاف المهاجرين في قوارب الموت  وعشرات المحترقين والمعتقلين، لم تلمس تغييرا في أوضاعها، بل إنّ حالة البؤس قد تفاقمت إلى درجات أعلى ممّا كانت عليه عشيّة اندلاع الانتفاضة. فارتفع عدد العاطلين عن العمل بفقدان آلاف العمّال لمواطن شغلهم بسبب إغلاق المعامل والمصانع، وشهدت الأسعار ارتفاعا غير مسبوق، ولم يقتصر الأمر عند هذه الحدود، إذ أصبحت الطبقات الكادحة محرومة من أبسط الخدمات مثل انقطاع الماء الصالح للشراب والكهرباء ومياه الري في مناطق ريفية وحضريّة من البلاد. والغريب أنّ الحرمان من هذه الخدمات، التي تثقل كاهل المفقّرين بمصاريف باهظة، لم يكن لعوامل طبيعيّة ولا بسبب الاستهلاك المفرط لهذه الطاقات، وإنّما هو فعل قصديّ لتبرير التّرفيع في أسعار استهلاك هذه الموادّ والتحضير لبرنامج أخطر وهو خوصصة الشّركات المشرفة عليها. ومن انعكاسات حالة البؤس ظهور بوادر انتشار الأوبئة مثل الكوليرا وطاعون المواشي، وهي ظواهر لا تظهر في العادة إلاّ في حالات تفاقم مظاهر الفقر والجوع في صفوف أكثر الطبقات الاجتماعيّة حرمانا. وخلال هذه الفترة تحمّل الفلاّحون الصغار والمتوسّطون القسط الأوفر من المعاناة، إذ لم يجنوا من جهودهم وعرقهم سوى مزيدا من التفقير والتداين والإفلاس بسبب ضعف أسعار منتوجاتهم التي يتحكّم فيها السّماسرة وكبار التجار، وبسبب الدّمار الذي خلّفته الكوارث الطبيعيّة الموسميّة من فيضانات وجليد وحرارة شديدة، ضف إلى ذلك وباء الطاعون الذي بدأ يفتك بقطعان الأغنام في أرياف عديدة.

   واقع الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة هذا، تقابله تصريحات مناقضة له تماما من قبل مسؤولي الدّولة الذين يسارعون دوما إلى الاستنجاد بلغة الأرقام التي يحاولون من خلالها إبهار الكادحين حول قيمة الميزانية المخصصة للتنمية في الجهات وأعداد العاطلين الذين وقع تشغيلهم والذين سيشغّلون على المدى القصير والمتوسط وحجم الاستثمارات ونسبة النمو الاقتصادي... إلى غير ذلك من الأرقام المضلّلة. غير أنّ هذا الواقع الذي ذكرنا يكذّب هذه التصريحات. فمشكل البطالة يتم مواجهته بفتح أبواب الحضائر أمام عشرات الآلاف من العاطلين، وهو "حلّ" يشبه عمليّة ترقيع لثوب مهترئ تلجأ إليه الأنظمة المفلسة في سياساتها الاقتصادية والاجتماعيّة، والحال أنّ ما يعتبرونه حلا يمثّل مشكلا في حدّ ذاته، فهو وقتيّ ولا يشبع الجائع من جوعه بسبب تدنّي أجور هؤلاء العملة، زيادة على التأخير في خلاص الأجور لمدّة أشهر. واستنادا إلى الأرقام الصادرة عن المؤسسات الرسمية للدّولة رغم ما تحويه من مغالطات، فإنّ نسبة البطالة قد ارتفعت من 13% في ماي 2010 إلى 18.3% في ماي 2011 ثمّ تراجعت إلى 18.1% في فيفري 2012، وهذا التراجع الأخير في نسبة البطالة يعود إلى توفير 36100 موطن شغل في تلك الفترة وطبعا هذا الرّقم استوعبته الحضائر في الوقت الذي تلقي فيه الجامعة بعشرات الآلاف من الذين أنهوا دراستهم إلى صفوف البطالة. أمّا خرّيجو الجامعات فقد أعدّ لهم النّظام قانونا للانتداب يقوم على مقياس الولاء السياسي والوصولية والمحسوبيّة ولا يوفّر لأبناء الشعب المضطهَدين سوى 3 آلاف وظيفة، وهو مجرّد قانون لذرّ الرّماد في العيون.

 أمّا مؤشرات الفقر التي تتجاهلها السلطة وتحاول تكذيبها فتبرز من خلال ارتفاع نسبة التضخّم لتبلغ 5.6% في شهر جويلية 2012 بعد أن كانت في حدود 2.7% في ديسمبر 2011، ومن خلال ارتفاع مؤشر الأسعار وخصوصا أسعار المواد الفلاحية والغذائية الذي ارتفع بنسبة 5.9% في النصف الأوّل من هذه السنة. وقد كان هذا التناقض بين تصريحات المسؤولين وواقع الأسعار وراء صدور نكتة التسوّق إلى التلفزة التي يتداولها التونسيون هذه الأيّام. مقابل هذه المؤشرات يتباهى مسؤولو السلطة في تونس بأرقام النمو الاقتصادي، وهي أرقام متضاربة أدّى تنافس المسؤولين في الترفيع فيها إلى جعلها محلّ سخرية وتندّر بين التونسيين، وهي في الحقيقة أرقام وهميّة يحلمون بتحقيقها غير أنّ الشّعب الذي أرادوا تضليله بها قد لا يمنحهم الفرصة ليضيفوها إلى "إنجازاتهم". ولم يستح هؤلاء من الإشادة بالرقم الذي أورده تقرير لصندوق النقد الدّولي بالرّغم من أنّه رقم بعيد تماما (2.4%) عمّا صرّحوا به. غير أنّ هذه النسب وإن ارتفعت فهي محدودة ولم تجن منها الطبقات المنتجة غير مزيد من الاستغلال والاضطهاد بما أنّ عائداتها لن تخرج عن الدّائرة الضّيقة للطبقات المستغِلّة والمرفّهة تماما مثلما كان الأمر في زمن بن علي.

   و أمام تزايد تفاقم البطالة والتحاق أعداد كبيرة من العمّال بها، إذ أغلقت حوالي 200 مؤسسة أجنبيّة أبوابها، لا يخجل النظام   من الإعلان عن ارتفاع نسبة الاستثمار الخارجي وكأنّ ما أقدمت عليه هذه الحكومة على بيع الأراضي والمناجم والموانئ وغيرها من المؤسسات الاقتصادية مقابل البترودولار تدعو إلى الفخر، وكذلك الشّأن بالنسبة إلى مراكمة القروض من الشركات المالية العالمية والأنظمة الرجعيّة والصناديق النهّابة وبلغ الأمر بالسلطة إلى التمسّح لدى الإمبرياليّين الأمريكان ليكونوا ضامنين لدى صندوق النقد الدّولي على القروض التي سيدفع فوائضها الشعب الكادح في نفس الوقت الذي يخضع فيه للسياسات المترتّبة عن الشّروط المرفقة بها والتي تهدف إلى تأبيد تحكّم القوى الإمبرياليّة في مصائر الشعوب. لقد أصبحت البلاد بفضل هذه السياسات الاقتصاديّة مهدّدة بالوقوع تحت الاستعمار المباشر وهي نفس الأوضاع التي مهّدت لانتصاب الاحتلال الفرنسي بالبلاد سنة 1881. و على غرار الارتماء في أحضان القوى الإمبرياليّة، يعمّق النظام   علاقات التطبيع مع الكيان الصّهيوني بشكل لم يعد خافيا، وهو ما يؤكّد اصطفافه إلى جانب باقي الأنظمة العربيّة في خندق القوى المعادية لمقاومة الشعب العربي للاحتلال الصهيوني وتحقيق تحرّره الوطني وانعتاقه الاجتماعي.

   هذه بعض مظاهر ما جناه التونسيون من الحكومات المتعاقبة منذ 20 شهرا، وهي حصيلة انجرّت عن نجاح الطبقات المعادية للشعب وللانتفاضة في المحافظة على ملكية وسائل الإنتاج ومصادر الثروة والتحكّم في السلطة السياسيّة وإن تغيّرت أسماء الحكّام وأسماء الأحزاب الحاكمة. لذلك لا تواجه سلطة اليمين الدّيني اليوم كلّ الاحتجاجات الشعبيّة بالقمع فحسب، وإنّما تقوم بمحاولة القضاء على كلّ ما يذكّر بالانتفاضة من أجل طمس آثارها مثل قضية الشهداء والجرحى وحرف الشعارات والمطالب الوطنية والاجتماعيّة التي انتفض من أجلها الشعب. غير أنّه رغم كلّ هذه المحاولات وهذه السياسات والهجوم الرجعي الشرس المستند إلى الدّعم الإمبريالي، لم تنطفِئ جذوة الانتفاضة بل أنّ حدّة الصراع تتأجّج أكثر مع تقدّم الأيام خاصة في المناطق الأكثر تهميشا رافعة معها نفس الشعارات التي لم تتحقّق وتبقى مهمّة الثوريين رسم الطريق إلى الثّورة الكفيلة بانتصار الشعب وتحقيقه  مطالبه المركزية والتاريخية: الأرض للفلاحين، الشغل للمعطلين، الحريّة للوطن، السّلطة للشعب والثروة للمنتجين.

العدد الأوّل، سبتمبر 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق