يتعالى الضجيج من كلّ الأماكن ويحتدّ النّقاش داخل مقرّ المجلس التّأسيسي وخارجه، وعبر وسائل الإعلام المرئيّة منها والمسموعة وكذلك المكتوبة وترتفع الأصوات المندّدة من هنا والمساندة من هناك وأصبحت العديد من الأحزاب تتراشق بالتهم وتهدّد بعضها البعض بالكشف عن أسماء تجمّعيّة تتحمّل مسؤوليّات حزبيّة في هذا الحزب أو ذاك، ويخوض الكلّ جدالا بيزنطيّا حول ما سمّي "قانون تحصين الثّورة" ويتخندق الجميع في صفّ الثورة حتّى أننا كدنا نصدّق تلك الكذبة التي تفيد بكون الثّورة قد تحقّقت وأنّ الجماهير أنجزت مهامّها وكنست أعداءها ولم يبق على السّاحة أيّ طرف معاد للثورة المزعومة.
فالنهضة تقدّم نفسها على أنّها من قامت بالثورة وتنسب لنفسها مهمّة تحصينها من أعدائها والدساترة القدامى والجدد أيضا يعتبرون أنفسهم حلفاء لهذه الثورة ويحقّ لهم مثل غيرهم جني ثمارها وكلّ الأحزاب الليبرالية منها واليمينيّة والأطراف الانتهازية وكلّ الجمعيّات والمنظّمات وحتّى ميليشيات روابط "حماية الثّورة" تعتبر نفسها معنيّة بالثّورة ويخال المرء انه لم يبق أيّ طرف يمكن اعتباره عدوّا لهذه الثّورة في هذا القطر.
لقد أصبحت الثورة لدى هؤلاء بمثابة المزاد العلني الذي يمكن لأيّ كان المشاركة فيه، بينما أضحى قانون "تحصين الثورة" حصان طروادة يمكّن ركوبه الحصول على لقب "حليف الثّورة". فما هو الغرض من عرض هذا القانون على أنظار المجلس التأسيسي وكيف ينظر الثوريّون لمسألة تحصين الثورة ؟ .
لنتّفق في البداية حول مسألة ذات أهميّة بالغة بالإجابة عن السؤال التالي : هل أنّ الهبّة الشّعبيّة التي انطلقت شرارتها الأولى من مدينة سيدي بوزيد في 17-12-2010 لتنتشر فيما بعد في كل القرى والأرياف والمدن تعتبر ثورة أم انتفاضة؟ إنّ الإجابة عن هذا التّساؤل ستقودنا بالضرورة إلى معرفة الأسباب الكامنة وراء طرح هذا القانون .
فالمتابع للأحداث منذ انطلاقتها في 17-12-2010 ونتائجها المسجّلة على أرض الواقع لا يمكن له التسليم بحصول ثورة في القطر لأن الثورة تؤدّي بالضرورة إلى تغيير عميق وجذري للنظام القائم، الأمر الذي لم يحدث ولم نلحظ له أيّ أثر على مستوى النتائج الحاصلة. فالنظام الحاكم حافظ على جلّ مكوّناته إثر هروب الجنرال في 14-01-2011، والوزير الأوّل أو رئيس الحكومة حافظ على منصبه بينما عيّن رئيس مجلس النواب فؤاد المبزّع رئيسا، كما حافظ العديد من الوزراء على وظائفهم وكذلك أغلب كبار المسؤولين سواء على المستوى الإداري أو الأمني أو العسكري وحتّى الوزراء الجدد الذين تمّ إدماجهم صلب حكومة الغنّوشي فإنهم ينتمون إلى المعارضة الصورية التي كانت تعمل زمن بن علي وكان الغرض من ذلك هو التخفيف من ضغط الحركة الجماهيريّة من ناحية و تحميل أطراف أخرى جانب من المسؤولية في التصدّي لهذه الهبّة الشعبيّة. ولم يكن الهدف من هذه التغييرات الطفيفة لبعض المناصب الإداريّة البحث عن حلول لفائدة الجماهير المنتفضة وتلبيّة لمطالبها المستعجلة بل كان عملا ممنهجا باتفاق مع القوى الاستعمارية خاصّة فرنسا وأمريـكا لمغالطة الجماهير أوّلا وأخيرا لإجهاض الانتفاضة والحــدّ من تطــوّرها واستمـــراريتها حـــتّى لا تتحوّل إلى ثورة من شأنها أن تطيح بالنّظام الحاكم وتهدم دعائمه ومرتكزاته وتهدّد بذلك مصالح الإمبرياليين في القطر .
إنّ الدّعم الذي لقيته حكومة الغنّوشي من قبل القوى الإمبرياليّة كان يهدف بالأساس إلى إسناد النظام حتّى لا يتهاوى أمام الضربات الموجعة التي تلقّاها من طرف الحركة الجماهيريّة المتعاظمة فتمّ تمكينها من الأموال الضّروريّة للتّرفيع في أجور الأمنيين والعسكريين لضمان استمرارهم في الدفاع عن النظام القائم والذّود عنه . كما أنّ استبدال الغنّوشي بالباجي قايد السبسي على رأس الحكومة لم يكن سوى مسرحيّة الهدف منها هو التخفيف من وطأة الحركة الاحتجاجية والتصدّي لها بكلّ حزم ، هذه الحركة التي بدأت تنحو في معظمها بحكم الأوهام التي بثتها في صفوفها كلّ الأطراف الرجعيّة والانتهازية نحو المطلبيّة وكأنّ جانب كبير من هذه الجماهير الشعبيّة قد صدّق في تلك الفترة ما تمّ ترويجه من كون "الثورة تحقّقت بهروب الجنرال في 14-01-2011 وبالتالي تكون قد أنجزت مهامّها" وبدأ في المطالبة بنصيبه من الغنيمة .
لقد كانت المهمّة الموكولة للباجي وفريقه الحكومي هي إنجاز الانتخابات والعمل على إقناع الجماهير المنتفضة بأنّ الحلول الحقيقيّة لمشاغلها ومطالبها هي الخروج مـن دائرة المؤقّت (نسبة للحكومة المؤقّتة) إلى الشّرعي (حكومة شرعيّة تفرزها الانتخابات) الأمر الذي تمسّكت به حركة النهضة وحلفاؤها في السّلطة في ما بعد في مواجهة خصومها وكذلك في مواجهة الحركات الاحتجاجية وردود فعل الجماهير الشعبيّة على السياسات الفاشلة والإخفاقات المتعدّدة للترويكا الحاكمة.
و أدّى كلّ ذلك إلى إعاقة استمرار الانتفاضة وبالتالي توجيهها وجهة خاطئة والسيطرة عليها وإجهاضها فلم تكمل مسارها الثوري ولم تتحوّل نتيجة لذلك إلى ثورة شعبيّة وبالتالي حافظ النظام القائم على وجوده فاستمرت نفس الخيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية السّابقة والتي اكتوى بنارها جلّ الكادحين ممّا أدّى إلى مزيد تفاقم بؤس الجماهير الشعبيّة الذي فاق ما كانت تعانيه قبل الانتفاضة . فعن أيّ ثورة يتحدّثون إذن ؟ .
من المعلوم أنّ هدف الحكومات المتعاقبة منذ هروب الجنرال كان إيهام الكادحين بأنّها حقّقت ثورتهم يوم 14-01-2011 واستكملت مهامها وما عليهم الآن سوى فسح المجال للحكومة (التي ولدت من رحم الثورة) للعمل لصالحهم باعتبارها حكومتهم وحازت مشروعيّتها منهم وأنّ القائمين عليها قد أفرزتهم الثورة باعتبارهم يمثلون قادتها الميدانيين، وبهذا المنطق، أصبح اليمين الديني بزعامة النهضة واليمين الليبرالي بزعامة نداء تونس واليسار الانتهازي ثوريين وحلفاء لهذه الثورة المزعومة والمطروح على جدول أعمالهم اليوم هو ضرورة تحصين الثورة من أعدائها. فمن هم إذن أعداء الثّــــــورة يا ترى ؟
إنّ تحصين الثّورة يعني حمايتها من خطر محدق بها، وهذا الخطر لن يتأتّى سوى من أعدائها الذين تمّت الإطاحة بنظام حكمهم وتمّ الاستيلاء على سلطتهم، وعندما نتكلّم عن ثورة فنعني بذلك أنّ القوى الثوريّة هي التي أنجزت مهامّ الثورة وأنّ مهمّة حمايتها محمولة على هذه القوى دون غيرها وذلك بمقاومة الأطراف الرجعيّة المتمثّلة في اليمين الديني بكلّ تفرّعاته واليمين الليبرالي بكلّ أطيافه إلى جانب الانتهازيين وسدّ الطريق أمام محاولاتهم للاستيلاء على السلطة من جديد لأنّهم يمثّلون قوى الرجعية. إنّ الطبقات الرجعيّة بصفة عامّة هي بالطبيعة عدوّة للثورات الشعبيّة فهل أنّ الأطراف السياسية التي تسعى لتمرير "قانون تحصين الثورة" هي في حقيقة أمرها حليفة للثورة وأقصد هنا الثورة التي تقوم بها الجماهير الكادحة، بمعنى أدقّ الثورة الوطنيّة الديمقراطيّة المتحولة إلى الاشتراكية أم عدوّة لها ؟
إنّ التحليل الملموس للواقع الملموس يبيّن بكلّ وضوح أنّ كلّ الأحزاب والمنظّمات والجمعيّات التي سعت لإجهاض الانتفاضة ووضعت أيديها في أيدي أعداء الشعب من إمبرياليين وصهاينة ورجعيين عرب تقف في صف أعداء الجماهير الكادحة وأعداء الثّورة. وبالتالي فإنّ كلّ الذين عمدوا إلى تضليل المنتفضين وإيهامهم بأنّ مهامّ الثورة قد أنجزت بهروب الجنرال ومغادرته القطر هم أعداء الثورة وإنّ الذين جرّموا الاحتجاجات الاجتماعية وسعوا لقمعها والزجّ بمن قادوها في السّجون هم أيضا أعداء الثّورة .
إنّ الذين باعوا خيرات القطر وثرواته الطبيعيّة وأثقلوه بالديون هم أيضا أعداء الثورة وكلّ الذين أغرقوا الجماهير الشعبيّة في البؤس والفقر والتهميش وزادوا في معاناتها في القرى والأرياف والمدن هم أعداء الثورة والذين يتاجرون اليوم وغدا وبعد غد بدماء الشهداء وبآلام ومعاناة الجرحى هم أيضا أعداء الثّورة. فعن أيّ تحصين يتحدّثون ؟
هناك صراع يهدأ في فترات ويتأجّج في فترات أخرى بين اليمين الديني ومن لفّ لفّه وبين اليمين الليبرالي ومن يدور في فلكه جوهره الحقيقي تقاسم السلطة أو الاستئثار بأكبر قدر ممكن من الغنيمة ونقصد هنا السلطة السياسيّة. فاليمين الديني بقيادة النهضة يستمدّ شرعيته حسب زعمه من الشعب الذي انتخبه وبالتالي يعمل جاهدا على تحصين مواقعه الحالية في السلطة وتدعيمها لضمان استمراريته ولم لا السيطرة عليها لخدمة مصالحه الحزبية والحفاظ على مصالح حلفائه الإمبرياليين والرجعيين العرب بينما يسعى اليمين الليبرالي بقيادة نداء تونس إلى تدعيم مواقعه والظفر بجزء هام من السلطة لإحداث التوازن المفقود حسب زعمه انطلاقا من قناعته بتنامي قاعدته الشعبيّة استنادا على بعض الإحصائيّات الموجّهة والتي تظهر تفوّقه على النهضة. والمقصود هنا بتحقيق التوازن المفقود هو اقتسام السلطة بطريقة عادلة بين طرفي الصراع الحالي أي اليمين الديني واليمين الليبرالي .
إنّ هذا التناقض الموجود حاليّا بين هذه الأطراف سيظل تناقضا ثانويّا ولن يرتقي في يوم ما ليكون رئيسيا لأنّه يتمحور حول اقتسام السلطة فكل طرف من أطراف الصراع لا يسعى لإلغاء الطرف الثاني بل إلى تقليص البعض من نفوذه وقد عبّر عن ذلك الباجي قايد السبسي وكذلك راشد العنّوشي وهو صراع لا يهمّ الجماهير الشعبيّـــــــة في شيء، هذه الجماهير التي تعتبر أنّ النهضة والنداء هما وجهان لعملة واحدة لا يمكن لهما تحقيق ما طالب به الكادحون إبّان الانتفاضة. وضمن هذا الإطار يتمّ طرح "قانون تحصين الثورة" من طرف النهضة وحلفائها ليس لغاية حماية الثورة من أعدائها، فهذه الثورة التي لم تقع كما بينّا، بل لغاية تحصين مواقعها في السلطة واستبعاد خصومها استعدادا للانتخابات القادمة حتّى تضمن هيمنتها على السلطة السياسيّة ، وما إدراج العديد من الفصول التي تهم المرحلة الانتقالية بالدستور المزمع كتابته إلا دليل على أنّ حركة النهضة بصدد إعداد العدّة وتوفير الظروف الملائمة لاستمراريتها في السلطة والهيمنة عليها .
إنّ تحصين الثورة وحمايتها من أعدائها لم يكن في يوم ما مهمّة من مهمّات أعداء الثورة ولم يكن مهمّة من مهمّات لا اليمين الديني ولا الليبرالي ولا الميليشيات المسمّاة "روابط حماية الثورة". إنّها مهمّة موكولة للثوريين والجماهيــر الشعبيّـة التي لا يمكن لها أن تنجز ثورتها إلاّ بتغييرها للنظام القائم تغييرا جذريّا لتفرز بذلك سلطة شعبيّة بقيادة العمال والفلاحين وسائر الكادحين، سلطة هدفها الأول هو القضاء على الهيمنة الامبريالية والاستغلال الكمبرادوري الإقطاعي وهو ما لن يتحقق إلاّ بمواصلة الانتفاضة لتتحول إلى ثورة تدكّ حصون الرجعيّة بكلّ تلوينانتها وتبني سلطتها الديمقراطيّة الشعبيّة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق