السبت، 16 أبريل 2022

سياسة وفكر في قصر قرطاج ‏

                                                                           فريد العليبي 

   استقبل قيس سعيد يوم الثلاثاء 12 أفريل 2022 جيل كيبال مبعوث رئيس فرنسا، وكانت لغة اللقاء العربية، وهو ما يحدث لأول مرة، ربما في تأكيد على السيادة الوطنية، التي تتطلب الى جانب شروط أخرى سيادة اللغة الوطنية. ومن ضمن ما قاله الرئيس لضيفه: إن عهد جيل فيري والقرن التاسع عشر قد ولّى وانقضى، وهو الذي رد موافقا، دون أسف على تلك الحقبة الاستعمارية الحالكة.

   وجيل فيري وزير فرنسي عاش خلال القرن التاسع عشر وتوفي سنوات قليلة بعد احتلال تونس، وتكريما له أطلق الغزاة الفرنسيون على أكبر شارع في العاصمة اسمه، وهو المعروف الآن بشارع الحبيب بورقيبة، كان ذلك الوزير من عتاة المستعمرين، تسكنه عقيدة عنصرية تقول إن مهمة فرنسا المتمدنة تحضير الشعوب البدائية، ومنها الشعب التونسي، وأن شعارات الثورة الفرنسية حول الحرية والاخاء والمساواة لا تصلح للهمج والبرابرة، الذين ينبغي حكمهم بالنار والحديد .

   جيل فيري له أحفاد في فرنسا وفي بلدان أوروبية أخرى، حيث يزداد نفوذ أقصى اليمين الحالم بعودة الاستعمار القديم، وهو الذي لا تعني له سيادة المستعمرات السابقة على نفسها شيئا، لذلك استوجب تذكيره بها.

   ربما كان على قيس سعيد التذكير أيضا بأفول نجم الساسة التونسيين الذين كانوا يعتبرون فرنسا أم تونس، مثلما قال يوما الهادي المبروك، الذي عمل في الإدارة الاستعمارية واليا (قايدا) على قابس، ثم استعان به بورقيبة لقربه من الفرنسيين فعينه سفيرا في باريس، فظل في منصبه دون انقطاع قرابة خمسة عشر عاما، ذلك السفير أسس مدرسة تخرج منها البعض من ساسة تونس الحاليين، مع اختلاف بينهم في تحديد من هي أم تونس، فقد انضافت الى القائمة تركيا التي قال قيس سعيد قبل أيام إنّ عهد فرماناتها العثمانية قد انتهى أيضا.

   سعيد يعلم أن سيادة تونس تتطلب استقلالها السياسي والاقتصادي والثقافي الخ.. بعد عبث باعة الوطن الذي تفاقم خلال العشرية السوداء، مُدركا أن الطريق طويل وشاق، ولكن الشعب قادر على السير فيه، وهو من ضحّى بالغالي والنفيس على مدى تاريخه في سبيل تلك الغاية.

   كان رئيس تونس يخاطب رجل فكر فحضرت خلال المقابلة الفلسفة أيضا، حيث التنبيه إلى تطور الأفكار وجمود المفاهيم كمشكلة، وحلّها في تطابق الاثنين، فتلك مهمة جديرة بالتحقيق أيضا. ويبدو أن سعيد وهو يقول ذلك كان على بينة من تفلسف إمانيال ماكرون، الذي يعتبر هو الآخر أن المفاهيم يجب اختبارها في صميم الوقائع، مفتخرا بدخوله بيت الفلسفة من باب كانط وأرسطو، قبل انجاز بحث الدراسات المعمقة حول هيجل.

   أما جيل كيبال المختص في الإسلاميات، وصاحب مؤلفات مثل الرسول وفرعون: الحركات الإسلامية في مصر المعاصرة، وثأر الله، والذي يشغل كرسي الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط في دار المعلمين العليا بباريس، فقد بدا عليه الحبور وهو يستمع الى الرئيس التونسي، متجولا بين جنبات الفلسفة والتاريخ والقانون.

   وعندما حاضر بعد ذلك في المدرسة القومية للإدارة لم يجد حرجا في القول أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يثق في الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عنه، مشيرا إلى أن "استقلالية الاتحاد أضحت مطروحة اليوم بشدة"، في تناغم مع رؤية رسمية تونسية قلقة من تدخل القطب الأمريكي البريطاني في شؤونها من جهة، ومن جهة ثانية تأكيد التناقض مع ذلك القطب في التعامل مع ملفات كثيرة، ومنها الملف التونسي فالاتحاد الأوروبي يدعم سياسات قيس سعيد، إدراكا منه أن تونس باب أساسي من أبواب أوروبا لذلك يريدها ضمن دائرة نفوذه، وهو ما كان يعبّر عنه في نفس الوقت وفد برلماني أوروبي حطّ رحاله في تونس، أما هي فعليها أن تجد في لعبة التناقضات تلك بعض ما تبحث عنه.

   بقي القول أنه إذا كان الاتحاد الأوروبي برغم قوته يُشرع اليوم سيادته في وجه ذلك القطب، مما يعني إدراكه أنه يتدخل في شؤونه، فماذا تقول تونس عن نفسها وهي التي تحاول التعافي من جراحها وكسورها ؟

جريدة الأنوار، 15-4-2022

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق