فريد العليبي
أخيرا جرى الاستفتاء على الدستور في تونس مثلما كان منتظرا، وذلك بعد عام من هبة شعبية عرفتها أغلب جهات البلاد، كان لها تأثيرها على تغيير الوضع السياسي العام، ويعد ذلك الدستور ثمرة من ثمارها.
وكانت نسبة الاقبال محترمة فالأمر يتعلق باستفتاء لا بانتخابات تشريعية أو رئاسية، حيث يكثر المتنافسون، بما يؤدي الى ارتفاع نسبة المشاركة هذا أولا، وثانيا ينبغي أن نأخذ عند تحديد النسبة الحالية بعين الاعتبار المسجلين آليا، وهذا ما يؤدي الى انخفاضها، فهؤلاء يمثلون أكثر من الربع
بقليل ولا يعرفون غالبا مكاتب اقتراعهم وليس لديهم حرص على المشاركة في الاقتراع أصلا، وثالثا هناك عامل حرارة الطقس والاصطياف وما يرافق ذلك من انتقال من مكان الى آخر بما يعني البعد عن مركز الاقتراع، ورابعا إذا ما قارنا تلك النسبة بالنسب السابقة في الانتخابات التشريعية أو البلدية فهي لا تختلف عنها من حيث الجوهر ،وخامسا لا يجب نسيان أننا نعيش في ظرف عالمي تنهار فيه الديمقراطية الليبرالية التمثيلية وتواجه برد فعل شعبي يتمثل في عزوف جموع واسعة من الناس على المشاركة في الانتخابات ، مثلما جري خلال الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية الأخيرة في فرنسا مثلا حيت لم تتجاوز النسبة 38%. أما اذا عدنا الى آخر استفتاء فرنسي على الدستور وهو الذي تم سنة 2000 فإننا نلاحظ أن نسبة الإقبال كانت 30.2% بمـــــا يشبه النسبة التونسية .والأهم في هذا الاستفتاء أن هناك تونسيين كثيرين يدركون اليوم ضرورة تغيير الحياة السياسية واحداث قطيعة مع منظومة حكم يرون أنها خدعتهم بانتقال ديمقراطي مغشوش، وهذا يعني أن تصويت يوم 25 جويلية 2022 يفسر أيضا بمعاقبة تلك المنظومة والرغبة في التغيير السياسي من خلال دستور جديد.
كما لا تخفى المقبولية التي يتمتع بها قيس سعيد حتى الآن إذا ربطنا بين التصويت على الدستور والثقة فيه، فخلال الانتخابات الرئاسية في دورتها الأولى سنة 2019 صوت له 620711، بينما بلغ عدد من قالوا نعم للدستور الجديد وفق تقديرات أولية 2,607. وهذا معناه أن تلك الثقة تضاعفت مرات ومرات، مع التنبيه الى أننا لا نلتفت هنا الى المسجلين آليا للاعتبارات التي ذكرناها.
والمهم أيضا أن الشعب التونسي يواصل محاولته صناعة مصيره بنفسه طوال هذه السنوات من خلال انتفاضة ضد حكم التجمع الدستوري تبعتها هبة ضد حكم حركة النهضة التي حلت محله، والدستور الجديد ليس سوى خطوة أخرى في الاتجاه نحو تونس الجديدة التي يحلم بها، وعلى خلاف ما يروج من أنه قيد في المعصم وبوابة للاستبداد فإنه يحمل داخله عوامل تطوره، اذ يمكن تنقيحه بطلب من رئيس الجمهورية أو ثلث المجلس النيابي، ولكن دون المساس بالنظام الجمهوري أو الزيادة في زمن الدورات الرئاسية بينما يفرض دستور 2014 توفر الثلثين من هؤلاء النواب فالدساتير مثل السلاح اذا لم تتعهده بالتنظيف ركبه الصدأ,.
وأمام الشعب الآن محطات مهمة أخرى مثل تغيير القانون الانتخابي عاجلا والانتخابات التشريعية التي تقترب أكثر فأكثر، وهي التي ستتوضح معها ملامح المشهد السياسي الجديد وهذا معناه أن الاستفتاء الحالي سيحدد جانبا كبيرا من السياسة التونسية القادمة.
ولا يخفى أن الدستور الجديد شرط أول لبناء تونس الجديدة وهناك شروط أخرى كثيرة ومنها القانون الانتخابي الجديد، فضلا عن قوانين ومؤسسات وإجراءات عملية غيره سيفرض الواقع وجودها مثل توفير الشغل للمعطلين والأرض للفلاحين الخ.. وهذه كلها تتطلب من حيث تجسيدها اتحاد قوى تونس الحية ونهوضها للكفاح بعزيمة أقوى فأقوى فالمعركة بين القديم والجديد ستتواصل خلال الأشهر والسنوات القادمة وسيكون النصر حليف الأقدر على الفهم أولا وتنظيم قوته ثانيا ومن يتحلى بالعزم والجرأة ثالثا.
وغني عن البيان أن تونس الجديدة ليست مجرد أمنية أو شعار، وإنما هي واقع يجب أن تراه العين متجسدا في تغيير جوهري في السياسة والاقتصاد والثقافة والاعلام والتعليم والصحة الخ.. تبني تونس من خلاله مستقبلها المضيء بعد ما غرقت فيه من ظلام.
جردة الأنوار 29 جويلية 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق